1/4 جرام....مش لازم تكون حياة ناس تانيين...

صلاح، صاصو، ملك النص، كركس، كلها أسماء لبطل القصة، فتى في قمة الذكاء، والانطلاق، خفة الدم، مبعث على الثقة، القصة التي نعرض لها قصة مختلفة من حيث صياغتها الأدبية هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا ما نظرنا لهذا العمل في ضوء أشهر ما نشرته المكتبة المصرية حول الإدمان "في بيتنا مدمن" "وجيه أبو ذكري" "رحلتي مع الإدمان" نجد أنفسنا بصدد عمل أدبي فريد. لأول مرة تأخذنا الرحلة بهذه الدقة في عقل المدمن نفسه، كيفية تفكيره، كل حيله، عالمه الذي يعيش فيه، محيط أصدقائه، كيف يجد بضاعته، كيف يهرب من الأهل من الاستقامة، وكيف تجره الخطوة لغيرها، ولغيرها حتى يدركه الغرق الكامل. تعيش مع القصة لحظات قلق، خوف، رعب، حزن شديد، فرح، يأس، ثم ترفعك مجددا إلى أعلى قمة الأمل وتلقي بك أنت القارئ إلى أسفل مدارك اليأس.

تقع القصة في 635 صفحة، قصة كبيرة، طويلة، ولكن عندما تقطع أول صفحات الرحلة لن تتركها على وقد أكملتها، الكاتب هو عصام يوسف، ابن الكاتب الكبير عبد التواب يوسف، كل جيلي ممن قرأ لهم آباؤهم وممن عرفوا طريقهم للقراءة يعرفونه جيدا من الكتب الكثيرةالتي ألفها للأطفال معرفتي بكثير من شخصيات الفراعنة بدأت من سلسلة كان يكتبها هو)، ووالدة المؤلف هي ماما لبني المسؤولة عن مجلة سمير لأعوام كثيرة، مجلة من سن "تسعة إلى سن تسعة وتسعين". هذا هو عمله الأدبي الأول المنشور، ويبدو من القصة أنها رواية لحياة أحد أصدقاء الكاتب، أو هكذا صورها، وقعت في يدي طبعتها السادسة، وقد قرأت عنها قبل شرائها ورأيت على شاشة التلفاز من البرامج ما أشاد بها، وهي على حد تعبير إحدى الجرائد "الأكثر مبيعا هذا الصيف بين المارينز(اسم يطلق على سكان مارينا) ".

تنقسم القصة لعدة مراحل، مرحلة الطفولة التي تختلط على حد ما بمرحلة الشباب، ثم تنتهي عند مرحلة ثانوية عامة لتبدأ بعد ذلك مرحلة الإدمان الحقيقي التي نتوقف فيها على عدد لا حصر له من المحطات، ثم ننتقل إلى المرحلة الأخيرة من القصة وهي كما أود أن أسميها كسر الدائرة أو الخروج من الدوامة.

ومرحلة الطفولة مرحلة غنية بالأحداث التي تدعوا للتأمل، قبل سن السنوات الثمانية كان بطل القصة محترف تزويغ من المدرسة، تمرس على شرب السجائر، زار البار الصغير الواقع في المنزل أكثر من مرة، وكان ملكا في الزن كما يصف نفسه، في سن العاشرة لم يتوقف عن الزن حتى تم شراء موتسيكل له، وتزامن هذا مع بيعه للسجائر بالفرط في المدرسة، وعرف طريقه في ذات الوقت إلى ممتلكات الآخرين لبيعها وشراء أي شيء بثمنها، ثم عرف طريقه لقيادة السيارات عن طريق صديق يملك والده معرضا لبيع السيارات. ثم يبدأ الزن مرة أخرى عند سن 12 عاما لشراء موتسيكل أكبر، ويحصل عليه.

شََكل مظهر بطل القصة عنصر جذب أكثر من قوي لمرتادي النادي، ولد صغير 12 عاما يملك موتسيكل آخر موضة، يتوفر في يده المال ( الناجم عن بيع أي شيء يقع تحت يده)، يفعل ما يشاء، ذكي خفيف الظل، ومن هنا ظهرت الشلة، الشلة في بداية تعارفنا على أفرادها نجدهم شديدي التباين الاجتماعي، فقط صاصو وصديق آخر ينتمون للطبقة المتوسطة المتعلمة، أب دكتور مهندس، والأب الآخر لواء بالجيش، وتنطلق الشلة معا على آفاق أقل ما يقال عنها أنها غير معقولة.

عبر بطل القصة البوابة الأولى لطريق المخدرات عندما امتدت يده على سجائر والده ليأتي عبور البوابة الثانية على يد شلة الأصدقاء عندما تناول أول سيجارة حشيش وهو في الثانية عشر...رحلة بدأت في هذا العمر المبكر لتنتهي عند حدود الثلاثين.

فلترت الاختيارات الشخصية لأفراد الشلة لبعضهم البعض لننتهي بستة أصدقاء، يجمعهم النادي ويجمع بعضهم المدرسة. خوت البيوت على الشلة، فهذا أب مسافر وهذه أم أرملة ومتزوجة من آخر والأولاد يرتعون في البيوت بلا رقيب ولا حسيب، حالة من اليتم غير العادي الذي ساهم فيها كونهم جميعا ذكورا فترك الحبل على الغارب لهم، وإما أصغر الأبناء في الأسرة أو ابن وحيد، انطلق الأصدقاء مجربين لكل شيء الخمر والحشيش على اختلاف ألوانه بل وعرفوا في هذه السن اليافعة أماكن البيع والتداول وصاروا من الزبائن الدائمين لهذه الأماكن.

والعجيب في الأمر أنه طوال هذه المرحلة يكون رد فعل الأهل تجاه أي من المصائب التي يكتشفونها، هستيري لحظي، ينتهي عند انتهاء حدود العقاب، لا ينظر أحد الآباء تجاه محيط الصداقات التي هي السبب الرئيسي فيما يكتشف من انحرافات يعتبرها الآباء من قبيل "الغلطة" "النزوة" التي يمكن معالجتها بعلقة محترمة.

تنموا شخصيات أفراد هذه "العصابة" في هذه الأجواء المشحونة بالأحداث، البعيدة كل البعد عن توجيه الكبار، والمليئة بحماقات الصغار، واعتبارهم أن الأرض أرضهم يرتعون فيها كيف يشاؤون، فتنضج، وتقوى، وتستمرئ الخطر والمغامرات، ويهيئها هذا التطور لمرحلة جديدة تماما في حياتها عندما يدخل أحد الأصدقاء بنوع مخدر جديد عليهم وهم في مرحلة الثانوية ويتعرف الجميع عليه ماعدا فردا واحدا، وتعتبر هذه هي اللحظة الفاصلة في حياة هذه الشخصيات جميعا، يسوقها هذا المخدر الجديد لكل ما تفعل وكل ما تقول وكل ما تشعر به وكل ما تخطط له، "البودرة" هكذا عرفوها ولا يذكر اسمها قرينا بالهيروين إلا فيما ندر خلال صفحات القصة العديدة.

نأتي للمرحلة الثانية من القصة، والتي تبدأ واقعيا مع تعرف الأصدقاء على "البودرة" وهي مرحلة مليئة بالأحداث يتصاعد خطها الدرامي بلا توقف ولممد طويلة، فعندما تقترب من المنحنى النازل تجد نفسك مرتفعا مرة أخرى بتطور لا تتوقعه لتظل كقارئ عاطفيا في حالة صعود مستمر مع الأحداث.

ومع حالة النكران التي يصدقها بالفعل بطل القصة من كونه ليس بمدمن تصدق أنت أيضا ذلك ويصبح لديك فصاما عقليا، فأنت بما تعرف متيقن من كون هذه الحالة وهذه القصة قصة مدمن، ولكن كيف لهذا المدمن أن يكون مقنعا بهذه الصورة للآخرين، بل ومحترما بينهم، خاصة لأهل أصدقائه المدمنين، الذين يرونه ملجئا أخيرا لهم لإنقاذ أولادهم بينما هو في الواقع من يمدهم بالمخدر ويساعدهم على الوصول إليه، كيف يقنعك أنه يستطيع في أية لحظة التوقف عن تناول البودرة رغم أنه لا يتوقف أبدا، الساحر في القصة أنها تجعلك والبطل شخصيتان قريبتان جدا من بعضهما ولا ينفرك منه فعل أو قول، على هولهما في كثير من الأحيان، وإنما علامات الاستعجاب والاستفهام لا تتوقف ولا تفارقك ابدا، كيف لا يشعر من حوله؟؟ كيف لا تشعر صديقته؟؟ كيف لا يشعر أهله؟؟ كيف لا يشعر أصدقاء الأسرة أن الفتى مختلف؟؟ كيف يصدق هو نفسه ويراها على صواب مطلق، بل ولا يتوقف مطلقا لرؤية ما يعتقده الآخرون ولا كيف يتصرف الآخرون؟؟ أسئلة لا تجد لها إجابات إلا مع اكتشاف الجميع كون هذا الشخص يتعاط "البودرة" وبجنون.

محطة مهمة في هذه المرحلة عندما تراه أمه في غرفته والحقنة على جواره، وتكاد هذه تكون أولى محاولاته للإقلاع عن طريق الحصار العائلي، ولكن خطته محكمة "نيمها" كما في لغة الشباب وأقنعها أنه استقام وأنها كانت أول وآخر مرة فتفك عنه الحصار وتعود لحياتها الطبيعية ويعود هو أيضا ممارساته الطبيعية التي اعتادها من سن 12 عاما.

محطة أخرى هامة وكاشفه عن جوانب كثيرة في شخصية البطل، عندما أذن له أهله بالسفر على أمريكا وفي زيارة عمل لأبيه يُحمله دون أن يدري "تربه حشيش" يخاطر بتوريط أباه في مثل هذه الجريمة بوعي كامل وبمساعدة أحد أصدقائه لمجرد الكيف والانبساط مع الأصدقاء في أمريكا بل والاتجار أيضا.

الانتقال من مرحلة الإدمان إلى مرحلة الاتجار سمة لحقت بكل الشخصيات المدمنة في القصة، ففي حالة العجز عن توفير النقود اللازمة للحصول على المواد المخدرة تحول البعض إلى التجارة المؤقتة بينما تحول البعض إلى التجارة الدائمة، وفي السياق نجد تحول الفتيات إلى ممارسة البغاء بستارات شرعية عديدة لتوفير الأموال اللازمة لهذا الداء الوبيل.

من الصدمات التي يتلقاها القارئ، صدمة إلقاء المدمنين لزملائهم ممن يتعرضون لما يسمي "أوفر دوز" جرعة زائدة، مجرد "زقة" صغيرة من السيارة على الطريق للهروب من "السين والجيم"، رفض البطل لهذا السلوك عندما يتعرض لذات الموقف، وإدراكه الأخلاقي "لنذالة" مثل هذا التصرف، يجعله مختلفا عن غيره حتى عن أقرب الأصدقاء، ربما منظومة الأخلاق التي نشأ محاطا بها، ربما اعتززه بالصداقة وبالعلاقة التي تربطه بأصدقائه.

صدمة أخرى هي طبيعة حياة المدمنين وعلاقاتهم معا، ربما يعرف كثير من الشباب تفاصيل هذه الحياة ولكنها تظل منغلقة على الأسر المصرية العادية.

مما يستوقف القاريء ان الدولة لم تظهر إطلاقا إلا من خلال بعض ضباط البوليس واللقاء بين من يروي عنهم البطل وأقسام البوليس، ولم تظهر الدولة حتى في التضييق على التجار إنه لأمر عجيب ان يظل الامر هكذا بين المستخدم والتاجر الا فيما ندر.

قرأت هذه القصة في الصيف قبل الماضي، وظلت في عقلي وقلبي أود ان أكتب عما فيها، وددت ان يقرأها كل أاب وكل أم...هل يا تري بعد ثورة مصر المجيدة تتغير هذه المشاهد وتعالج المشكلة بجدية من قبل الدولة...جدية وجرأة...جدية وحكمة، أم نظل نعالج الأمور من خلال هذا الجزء او ذاك متجنبين العلاج الأشمل للمشكلة جمعاء؟؟؟

ليست هناك تعليقات: