سلسلة على هامش الترحال -8 باكستان

باكستان
(8)

"كان من المستحيل أن لا تستقل باكستان، لو لم تستقل لظللنا أقلية بلا مستقبل في الهند التي لا يعرف عنها الغرب والعالم سوى أنها بلد غاندي" قالت محدثتي الطبيبة بينما نجلس في المقعد الخلفي لسيارتها ويقود سائقها في محاولة للوصول لقمة الجبل الذي يتوسط إسلام أباد. ترجلنا من السيارة وقررنا أن نواصل السير في الدروب العرجة التي تغطي الجبل الصغير. قالت لي إنها زيارتها الأولى للجبل خلال السنوات العشر الأخيرة.

في ترحالى أقابل الكثير من النساء، والرجال، يتحدث الرجال في العمل والدين والسياسة والحالة الاقتصادية، بينما تتحدث النساء العاملات عن حالتهن الاجتماعية وعلاقاتهن بأزواجهن، أما المتزوجات من غير العاملات فعادة ما ينظرن إلي بعجب إن لم يكن برفض وفي غالب الأحوال يسألنني إذا ما كنت أما، وعندما تأتيهن الإجابة سلبا يبتسمن في زهو ويقلن: " طبعا مع كثرة العمل والسفر لن تجدي وقتا لمثل هذه المهام، كان الله في عون زوجك". اليافعات المتعلمات عادة ما يسألن عن عملي وهل تزوجت زواجا تقليديا أم عن قصة حب؟ وإن كان في رحلاتي ما يبعث على الأمل فهو حديث هذه الفئة الطموحة المتحمسة التي لم تكسر قسوة الحياه همتها ولم تقيدها أغلال زيجات غير متكافئة أو غير متماسكة.

رفيقة رحلتي هذه المرة طبيبة في أواخر الثلاثينات، تنحدر من عائلة تعلم نساؤها حتى قبل استقلال باكستان، فجداتها لأبويها متعلمات وكانتا تمتهنان التدريس حتى قبل زواجهما، "وهو الأمر الغريب في باكستان بأسرها" كما قالت، "ولهذا تجدين مولد فتاة في عائلتي يحظى بفرحة كبيرة، بينما مولد الذكر يمر مرور الكرام". " سمتني أمي بهيجة قالت إنها كانت مبتهجة طوال فترة حملها لذا سمتني بهيجة، وذبحت لمولدي نعجتين كما يذبح لعقيقة الصبي". "المشكلة الكبري هنا في باكستان أن الحياة تتطور ولكن لا يتطور الجميع معها، عندما تخرجت من كلية الطب عينت لقضاء فترة الخدمة الإجبارية هنا في اسلام أباد... عندها التقيت زوجي...كان متعلما أبوه رأس أكبر معهد للسرطان في باكستان...وظل طبيبا عالميا لأمد طويل قبل أن يعتزل العمل منذ سنوات قليلة..أخواته كن متعلمات أيضا وبعضهن يعمل، أما أمه فكانت غير متعلمة حتى إنها لا تقرأ"، "رأيته مناسبا جدا...من أسرة متعلمة كأسرتي، وتصورت أن السعادة تتمثل في ارتباطي به"، "حكيت لأمي في الهاتف، فقالت عليه أن يأتي لرؤيتي وأبيك قبل أي ارتباط رسمي".
بعد الزيارة قالت أمي: "لن تكوني سعيدة معه يا بنتي، إنهم متعلمون من الخارج أما في الداخل فهم قوم تقليديون حتى النخاع". كنا قد وصلنا إلى قمة الجبل وتقطعت أنفاسي من السير، فرجوتها أن نجلس وأنا أشعر بها كمن يلقي همه وسره لدى غريب يعرف أنه لن يلتقيه مرة أخرى وإن كانت الرغبة في المشاركة والحديث وربما التعاطف تدفعها دفعا لإكمال قصتها.

أكملت بعد جلستنا كلامها: "تفكرت في حديث أمي ورأيت فيه جانبا من الصواب خاصة أنه لم يذكر أهله إطلاقا في أي حديث عن ارتباطنا"، قلت لها: "أتعلمين أنها قصة مكررة في كل بلد...في كل مجتمع؟...يختفي الأهل من الصورة فيعلم أن وراء الأمر ما وراءه"، قالت: "لقد سألته صراحة فأنكر أن يكون هناك أي اعتراض من جانبهم، وبعد زواجنا علمت من أمه التي لم ترني من قبل أنها وافقت بعد أن هددها ابنها بعدم الزواج مطلقا"، " آه لقد كانت أمك محقة إذا؟؟"، "نعم ..وحدث كل ما توقعته بعد زواجنا " ...لفنا الصمت ونحن نحاول عبور انحناءة صغيرة في الممر الجبلي الذي نسيرفيه ثم واصلت الحديث: "هنا في باكستان توجد تقاليد راسخة بين الأسر، فزوجة الابن عليها أن تقوم على خدمة أهل الابن مهما كانت مسؤولياتها الأخرى، وهي إن لم تفعل ذلك اعتبرت زوجة غير مطيعة، وغير صالحة، وجرى الهمز واللمز عليها في المحيط العائلي كله".

"تزوجنا وقد بدأت في دراسة الماجستير، أما هو فاكتفى بالقدر الأساسي من تعلم الطب وانتقل للممارسة، كنت أستيقظ في الخامسة، أعد الطعام لي ولأولادي ولأمه وأبيه وأي ضيوف آخرين، ثم أقوم بغسل الملابس للمنزل بأسره، وآخذ صغيرى وأقود بالسيارة لمدة 150 كيلومترا لأذهب لأمي تاركة الصغير عندها، ثم أقود أكثر من هذه المسافة لأذهب إلى كليتي، أنهي يومي الدراسي في حوالي الخامسة وأعود إلى المنزل لتحضير الطعام وكي الملابس والاستمرار في الخدمة حتي ينام الجميع، عندها أدرس لمدة ثلاث ساعات ثم أنام وأنا لا أري أمامي...وهكذا يوميا...ومع ذلك عند عودتي في المساء إلى المنزل لا أرحم من الغمز واللمز "، سألت مدهشة: "وأين كان زوجك من كل هذا؟...هو اختار أن يتزوجك وهو عالم بطموحك العلمي وطبيعة أسرتك المثقفة؟ ألم يكن له أي دور في مساعدتك؟؟"، قالت: "على العكس تماما..لقد اندمج في حياته الخاصة وأصبح يقضي الليالي في صحبة أصدقائه ثم يعود إلي منهك القوى غير قادر على الاستماع لي...واستمرت الحياة على هذا المنوال حتي تحولت إلى آلة لا تتكلم، تسمع فقط، تقوم بكل واجباتها دون توقع شيء بالمرة ودون إنجاز علمي يذكر حتى إنني قدمت لإجازة من الدراسة لمدة عام...مع سعادة غامرة من أهل زوجي بما وصلت إليه خاصة من أمه وإن لم يتوقف التقريع طوال الوقت"، قلت لها: " كثيرا ما تفكرت في محاربة النساء للنساء، وأذكر أن مسلسلا أمريكيا كانت فيه ضابطة في الشرطة تحقق مع ضابطة أقل رتبة وعاملتها بعنف شديد في وجود محقق آخر، ثم انتهى التحقيق لصالح الضابطة الصغيرة...وعند الانتهاء من التحقيق التقيتا، فتساءلت الضابطة الصغيرة عن سر قسوتها في التحقيق معها، فقالت لها لا تتوقعي كوني امرأة أن أساندك، عليك أن تشقي طريقك بقوة في هذا العالم و لا تركني أو تتوقعي أي مساندة من أحد، هكذا تعلمنا نحن ويجب أن تمررن أنتن بذات الظروف"، وأضفت: "أتعلمين؟ كثيرا ما تأملت هذا الحوار القصير مع مشاهدات كثيرة في الحياة...تجدين أن كثيرا من النساء لا يردن للمرأة الأخرى خيرا حتى وإن كانت ابنة ظروف أفضل...بل يردن لها أن تمر بذات المحن...فتجدين الأم تقول عن الإبنة التي تبحث عن الحب في الزواج...(ده كلام فارغ ما كلنا اتجوزنا من غير حب)، وتجدين الحماة تقول عن زوجة ابنتها التي تعاني من آلام الحمل (ما كلنا حملنا وخلفنا... بلا دلع ماسخ)، وتجدين الأم التي عانت من العملية الشنيعة التي تسمى الختان هي التي تدفع بابنتها في ذات الطريق... والاستثناءات طبعا موجودة، والحقيقة لا أدري لهذا الموقف تفسيرا...طبعا أم زوجك من هذا الصنف من النساء ...هي غير متعلمة وأرادت لابنها زوجة غير متعلمة أيضا...فلا أحد أفضل من أحد...أما زوجة متعلمة لها طموح وقدرة على إدارة الحياة فهذا الكابوس بعينه لأم زوجك...فمعنى هذا وجود من هو أفضل منها بل ما يثبت أنها لم تكن المرأة الكاملة لزوجها المتعلم مدير أكبر مركز لعلاج السرطان في باكستان"، ردت قائلة: "كان لأمي ذات الرأي عندما وجدت إصراري على الزواج، أذكر كلماتها جيدا: "إن أمه لا تعمل ولم تتعلم، ويتوقع منك الحياة معهم، إن مثل هذه المرأة لن تقدر طموحك بل لن تكتفي بعدم دعمك وإنما ستقوم على عرقلتك، هناك نوع من النساء لا يردن لبنات جنسهن خيرً لم يطلهن، كبعض الأمهات اللاتي لم يتزوجن عن عاطفة صادقة، تجدينهن يضنن على بناتهن بزيجات أساسها العاطفة".

التقانا أحد المصورين المحترفين وألح أن يصورنا وخلفنا مسجد الملك فيصل الأبيض الشهير بباكستان، أشرت له مبتسمة إلى الكاميرا التي أحملها، حيث جرت عادتي أن آخذ صورة واحدة لكل بلد أزوره، فاستدار مبتعدا وقد خاب أمله، كنا قد تعبنا من السير فقررنا أن نشرب شيئاً في الكافيتريا المتواضعه على قمة الجبل. سألتها بعد أن جلسنا:" وكيف انتهى بك الأمر طبيبة كبيرة في أحد المراكز الطبية في باكستان؟؟"، قالت: "عادت أخت لي من الخارج حيث تدرس وزوجها، ولما رأتني صدمت من التغير الحاصل لي، وأصرت على أمي أن تأخذني لبيت الأسرة لأرتاح قليلا وليعتنوا بي هناك، مع الإصرار على زوجي أن يكون لنا منزل مستقل كما يليق بأطباء متعلمين لهم وضعهم الاجتماعي المتميز. تركت أولادي وقلبي يكاد ينفطر وذهبت لمنزل أمي... عدت لزوجي وبيتي بعد ثلاثة أعوام، رتبت أختي لي السفر لعمل الماجستير، ذهبت بعد خلافات كثيرة مع أهل زوجي، أخذت أمي الأطفال، لم يزرهم أبوهم يوما خلال السنوات الثلاث ، ولكن عندما عدت بشهادتي ألح علي لنعود أسرة واحدة، وقد كان، ولكن بشروط الاستقلالية في الحياة هذه المرة".

وصلنا للقمة حيث يقف الكثير من الناس يطلون على المدينة من علياء الجبل، وقفنا جنبا إلى جنب صامتتين، أفكر في قصتها، في أبنائها، ولا أدري فيما تفكر هي. ابتعنا مشروبا باردا من كشك صغير، وجلسنا أحدثها عن أمي حينا وعن إخوتي حينا آخر.

انتهينا من جولتنا، عدنا للفندق، وانتظرنا زوجها ليأخذها، التقيته، رجل لطيف، ولكن يبدو أن اللطف لا يمكن أن يكون أساسا وحيدا لحياة زوجية قوامها المسؤولية المشتركة. عندما تراهما معا تفكر في أي أمر إلا السعادة .

عدت إلى بلدي وعندما ذهبت لأخذ الصور من محل التحميض، قال لي العامل: "آسف...كل الصور محروقة...يظهر الضوء كان قوي أوي".

ليست هناك تعليقات: