سلسلة على هامش الترحال 6- الهند

الهند
(6)

العيون سوداء دافئة تدور نظراتها بين الفضول والترحاب، والشعور داكنة السواد، والبشرة شديدة السمرة، والكلمات تتدفق دون توقف، والحوار موصول، والأصوات مرتفعة، كأني في الشرق ولكن نعم أنا في الشرق، بل في قلب الشرق، أنا في الهند. إن الادعاء بأن بلادنا هي الشرق وهم كبير، إن الشرق هو ذلك الذي يعبق جوه برائحة التوابل تلك التي أجدها في أنفاسي الآن، الشرق بالنسبة لبلادنا هو تلك البلاد البعيدة التي منها جاءت ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. تلك البلاد الحارة التي أنا فيها الآن.

جاءتني الدعوة لمؤتمر يعقد في الهند أواخر أيام رمضان ويمتد ليستغرق أيام عيد الفطر، معنى هذا أنني سأحرم من قضاء العيد بين أسرتي، عندما أثرت هذا في جلسة أسرية علمت بما لا يدع مجالا للشك أن رفضي الحضور هو رفاهية لا أملكها وأنا من بلاد تشرئب برأسها في محاولة لمطاولة قمم العالم الحديث. لقد حقق المسلمون أسمى انتصاراتهم في رمضان بين بدر وحرب العاشر منه، ولم يقعدوا تعللا بأسرهم. وها أنا الآن هنا في آخر أيام رمضان عساي أرزق نصرا كنصرهم.

نزلت بومباي لأخذ رحلة داخلية إلى نيودلهي "دلهي الجديدة". استغرقت الرحلة من وطني إلى هذه المدينة بالتوقف في دبي ما يزيد على عشر ساعات وكانت المفاجأة أن حجزي من بومباي إلى نيودلهي غير مؤكد فأنا على قائمة الانتظار-ومتى لم أكن؟- طال انتظاري سبع ساعات وجدت نفسي بعدها في الطائرة التي ذكرتني قفزاتها المستمرة بأفلام الحرب العالمية الثانية، ولكن الحمد لله لم تنته الرحلة كما انتهت الحرب بانفجار نووي وإنما انتهت بسلام.

عندما حللت نيودلهي أدركت أن إرهاقي منعني من رؤية الزي الجميل الذي ترتديه أغلب النساء وهو الساري بألوانه الزاهية الجذابة، ولاحظت أن البعض يرتدي الزي الباكستاني المحتشم فأدركت أن هؤلاء بالضرورة مسلمات. فاجأني موظف الجوازات بسؤال غريب:" أين النقاب؟" في إشارة لكوني مرتدية الحجاب.

اليوم الأول للمؤتمر، الفندق مليء بالتماثيل الصغيرة والكبيرة التي لم أرها من قبل في حياتي، ويشعلون فوقها البخور طيلة اليوم، وليكتمل ذهولي وجدت البعض بين الجلسات المختلفة ينحني أمامها بوقار وجلال شديدين..أعبدة أصنام في هذا الزمان؟؟ نعم وعبدة أبقار وعبدة أنهار، يا أيها القوم لكم دينكم ولي توحيدي.. الحمد لله .

بعد انتهاء ورش العمل ولجان التوصيات وحفل الختام ومع كلمة مدير المشروع لي: "زينة نحن نعتذر إن كنا أضعنا عليك العيد" ثم إجابتي: "لا يوجد تعارض بين واجب العمل ومتعة الاحتفال في ديننا"، بعد هذا كله بدأت رحلتي. خلعت الزي الرسمي الغربي وارتديت جلبابا أزرق مع وشاح يجمع بين اللونين الأزرق والأبيض ووضعت مشبكا فضيا مثلث الشكل كتب عليه "ما شاء الله". هنا بدأت رحلتي الحقيقية، بدأ اكتشافي لذاتي من خلال حضارة لم أشهدها للرواد المسلمين الأوائل.

انطلقت مع أمريكية تعمل في باريس وغينية تعمل في الجامعة ونيروبي يعمل مع الأمريكية بسيارة أرسلتها لنا شركة سياحة لنبدأ اكتشاف أهم معالم وآثار نيودلهي.

قال لنا المرشد السياحي هي نيودلهي "دلهي الجديدة" لأن هناك أولد دلهي "دلهي القديمة". عندما سألنا عن الفارق بينهما قال النظافة. والحق أنه رغم قلة موارد البلاد الواضحة في السياج الحديدية الشائكة التي تحمي الميادين والزهور بدلا من أسوار أنيقة، وفي سيارات الأجرة الصفراء العتيقة التي لم يغيروها منذ استبدلوها بالأفيال ، إلا أن نظافة دلهي الجديدة ملحوظة وهو أمر تبينته في حمامات المطار، فمع تواضع الإمكانيات الشديد إلا أن الحمامات كانت في غاية النظافة مليئة بالأوراق والصابون لخدمة المرتادين من المسافرين وغيرهم، وهو الأمر الذي يفتقده زوار كثيرون من بلادنا.

انطلق بنا المرشد صوب ما قال عنه أهم معالم دلهي على الإطلاق، وهو ما سماه "قطب منارة" قال إنها بنيت على مراحل عدة فقد أضاف لها كل سلطان أو خليفة إضافة ما. "سلطان ..خليفة!!!" هذا الرجل يتحدث عن مسلمين أم ماذا؟ …. هنا في بلاد أنديرا غاندي سأرى ما يربطني بحضارتي وجذوري! سأصبر حتى أرى..قال الرجل الكثير عن المكان و عن تفرده وهيبته وجماله.

نحن أمام المدخل، السور مرتفع لا يكاد المرء يتبين ما بداخله. باسم الله ولجنا، يا ربي ما هذا الجمال؟! لا يضارع وصف المرشد الحقيقة إطلاقا، إن المكان أكثر جمالا وروعة وجلالا بلونه الأحمر المميز، بعد السور يدلف الزائر إلى ساحة واسعة تتوسطها منارة شامخة تعتمد على الأرض فتخالف بذلك المنهج المعماري التقليدي في المآذن التي تقوم عادة فوق المبنى الأساسي للجامع، تلتف حول هذه المئذنة بوابات كثيرة يبدو أنها بقايا لبنايات ما، هنا أخذت في القراءة وقلبي يدق بعنف، إنه القرآن، آيات القرآن مكتوبة في كل مكان، ورفاقي ينظرون بدهشة ويقولون: "يمكنك قراءة هذا؟" قلت ببساطة تخفي كل الإثارة بداخلي: "نعم.. هذه آيات القرآن الكتاب المقدس للمسلمين" فتساءلت الأمريكية: "معنى هذا أن مشيدي البنيان مسلمون.. لم نتصور أن حضارتكم وصلت هنا؟؟"

يقوم في الجانب الأيمن البعيد مبنى صغير مسور ومرتفع يدلف إليه بسلم صغير، صاح رفقائي ساعة دلفوا إليه وقالوا" "يا لها من زخارف بديعة!" قلت لهم: "نعم هذه الزخارف البديعة هي آيات القرآن." قبر من هذا؟ قال لنا المرشد أحد الحكام المسلمين مازال يرقد هنا.

منذ تلك الزيارة لم تعد عندي الهند بلاد الزعيم العظيم غاندي فقط. صارت الهند مثلها مثل بلادي، لنا معا جذر ثقافي مشترك، وأرضية حضارية متقاربة. لم يعكر هذا الإحساس لا تذمر الأمريكية من الزحام ولا تعجب النيروبي من الضوضاء. وجدت دفاعي عن هذه البلاد في قولي :"تتكلمون وأنتم من إفريقيا كمن لم ير بلاد العالم الثالث الفقيرة مطلقا"، و أيضا في أخذي الشاي من أحد العمال في محل للمنسوجات بعد رفض الأمريكية له تخوفا من مستوى النظافة دفاعا عن نفسي وإكراما لمن يربطني بهم ماض عزيز وإن اختلف الدين وتبدلت الأحوال بتبدل الأزمان.

علمت من المرشد أن آخر حكام المسلمين في الهند هو "بهادر شاه الثاني" الذي تولى الحكم في الهند سنة (1838م)، خلفًا لأبيه السلطان "محمد أكبر شاه الثاني"، وكان الإنجليز في عهده قد أحكموا سيطرتهم على البلاد، وفرضوا نفوذهم على سلاطين الهند، الذي كان الفساد قد ضرب بأطنابه في جوانبهم فصاروا توابع للإنجليز. وفي عهد بهادر شاه الثاني بدأت الثورة الكبرى ضد الإنجليز بأيدي جنود هنود مسلمين وهندوس يدا بيد، بدأت معركة الاستقلال التي استمرت سنوات عديدة، حتى بعد انهزام بهادر شاه من قبل الإنجليز، بين خفوت واشتعال حتى انتهت بالاستقلال الكامل عام 1947 م.

في محبسه جادت قريحة بهادر شاه قبل موته بقصيدة جميلة، تفسدها الترجمة العربية، ولكن لابد من ذكر بعضها:
يا رسول الله ما كانت أمنيتي إلا أن يكون بيتي في المدينة بجوارك،
ولكنه أصبح في رنكون وبقيت أمنيات في صدري.
يا رسول الله.. كانت أمنيتي أن أمرغ عيني في تراب أعتابك،
ولكن هأنذا أتمرغ في تراب رنكون.
وبدلاً من أن أشرب من ماء زمزم، بقيت هنا أشرب الدموع الدامية.
فهل تنجدني يا رسول الله؟ ولم يبق من حياتي إلا عدة أيام .

رافقني الشعور بالعزة في اليوم الثاني وأنا في الحافلة التي أقلتنا إلى تاج محل، كل ما علي أن أصمت وأسمع هذا المرشد وذاك السائق يتحدثان عن أمجاد الحكام المسلمين وعما شيدوه. أمام تاج محل وقف المرشد يروى أسطورة ذلك الحب الذي جمع بين قلب غياث الدين خُرّم بن جهانكير، الملقب شاه جهان (أي ملك الدنيا) الملك المسلم وامرأة من عامة الشعب (ممتاز محل)، و قد بلغت قصة الحب هذه أوجها في التاريخ ببناء هذا الصرح الشامخ الذي صمد عبر دهور ليشهد في عصرنا الحديث أن قلبا مسلما عرف كيف يحب وكيف يفي وفاء صادقا يتحدث عنه العالم.

هذا ما كانه تاج محل لدى زواره قصة حب أسطوري، هو عندي قبل ذلك قربى لله، لقد كتب هذا السلطان على أول بوابات القبر الذي هو اليوم أحد عجائب الدنيا السبع: "ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد…" إلى آخر السورة. دخلنا، أمامنا المبنى الأساسي: المسجد الأبيض الرائع تمتد إليه من البوابة شبكة قنوات مائية بديعة الصنع. سلكت طريقي بعيدا عن الفوج المرافق، فهذا المكان لي غير ما هو لهم.

قال المرشد إن المسجدين على اليمين واليسار يصلى فيهم الناس حتى الآن، توجهت إلى الأيسر حيث الزحام أقل، خلعت نعلي وتوضأت بمياه القناة البعيدة في وسط دهشة البعض وقمت بين يدي الله.. تحية المسجد أولا ثم ركعتين...مع الرحابة والبهاء اللذين تعطيهما زرقة الفضاء الواسع وانسياب النهر خلف المبنى لنفس الزائر وللمكان ذكرت أمي وهل أنساها ؟

يشهد هذا المكان وحصن أجرا المجاور له أن المسلمين عرفوا العاطفة الصادقة المخلصة لنسائهم، وأن النساء بادلنهم حبا بحب وإخلاصا بإخلاص، فهذا الأمير يترك جيشه ليرى امرأته في مرض موتها، وهذه تدفعه للعودة ليرعى مصلحة بلاده. أين هذا مما نحن فيه الآن من بلاء ؟ يعلم الله.

في طريق العودة مر بنا أحد الحواة بصحبة نايه وسلته، رفع الغطاء وبدأ يعزف، رفض الثعبان التحرك، فدفع الرجل بيده إلى داخل السلة وأمسك بالثعبان ولطمه على وجهه ثم ألقاه في السلة وعاود العزف فتحرك الثعبان راقصا. رق قلبي للثعبان، إن الإنسان لجبار ولو كان من الحواة.
مررت بأماكن كثيرة في تلك الزيارة، حصن دلهي الجديدة والحديقة التي أحرقت فيها أجساد الزعماء غاندي وأنديرا غاندي ومن بعدهما ابنها راجيف غاندي وكان آخر عهدي بالمدينة زيارة المسجد الكبير في دلهي القديمة التي يصدم زائرها بالمستوى شديد التدني للنظافة فيها. رغم ذلك استمتعت برؤية كل حجر أحمر وضعه المسلمون في جنبات المدينة وبين طرقاتها مكتشفة أننا اليوم في بلاد الإسلام بعيدون كل البعد عما صنعه جيل الأجداد البعيد.

وأنا أنظر للمدينة من شباك الطائرة همست لنفسي: "إنّا بتخلفنا أضعنا الكثير الكثير ليس من الأماكن فقط ولكن أهم من ذلك من القيم التي لا يشوبها تطرف وغلو. فبأي شيء سنعتذر ربي إليك؟".

ليست هناك تعليقات: