على هامش الترحال 4- سنغافورة

سنغافورة
(4)

أتيت من القاهرة إلى سنغافورة عبر مطار دبي، لقد أصبحت أمضي في مطار دبي بين الأسفار المختلفة أكثر مما أمضي في موطني، استغرقت الرحلة ما يقارب العشرين ساعة. وللمرة الأولى منذ عرفت طريق الطائرات، للمرة الأولى، أنا خائفة وقلقة ويملؤني حذر لم أعرفه من قبل، لقد تغيرت حياتي بصورة درامية للغاية في الشهور السبعة الماضية فلم يكن ينقصني إلا رحلة كهذه تباعد بيني وبين أهلي وأحبتي وبين شرنقة الأمان الجديدة التي بدأت أغزلها في القرب منهم.

مطار دبي بارد للغاية، لا أعرف لماذا طورنا، نحن العرب، في بلادنا الحارة عادة خفض درجة حرارة الجو حتى يضطر رواد المكان ارتداء ملابس ثقيلة ليتجنبوا برودة جوه. أود أن أخبر أحدهم يوماً أن ذلك لا يؤدي بحال من الأحوال لخفض درجة حرارة الجو خارج المكان، فالحرارة الشديدة تظل هي هي دون تأثر بمدي قوة عمل التكييف في الداخل.

استلقيت على أريكة في غرفة الاستراحة لمدة لم أدرك مداها ولم يوقظني إلا صوت المضيفة: "سيدتي الطائرة هبطت منذ دقائق"، شكرتها وانطلقت.

أنا في سنغافورة، عرفها العرب قديماً باسمها الحالي ، أثناء رحلاتهم التجارية إلى الشرق الأقصى، وبعد توقف السفن الشراعية ظهرت أهميتها كميناء للسفن التجارية في القرن التاسع عشر ، فأصبحت ميناء عالمياً مند سنة1819 م، ودعم وظيفتها تصدير قصدير الملايو ومطاطها ، فاتخدتها شركة الهند الشرقية البريطانية كميناء أول لها في جنوب آسيا مند سنة1876 م، وخضعت للاستعمار البريطاني إبان سيطرته على شبه جزيرة الملايو ،وتحولت إلى قاعدة مهمة للأسطول البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية ، ثم حصلت على استقلالها مع الملايو حسب اتفاقية لندن سنة 1957 م واتحدت مع ماليزيا في سنة 1959م وانفصلت عن اتحاد ماليزيا في سنة 1965 م ، وعرفت بعد الانفصال بجمهورية سنغافورة .

مطارها رحب أو كما تقول خالتي ِشرح، ألوانه تدور بين الزهري الفاتح والرمادي. أول ما لفت انتباهي عندما خرجت منه ضوء الصباح الذي يغمر المدينة والجمال الفائق والنظافة الباهرة، ونعم هي مبهرة كوني دوما ظننت أن أحوال الشرق متشابهة خاصة فيما يتعلق بأمور كهذه ولكن هذه البلدة رائعة الجمال شديدة النظافة كما لم أر من قبل. الخضرة تغطي كل شئ أشجار استوائية جميلة تطاول قممها السحب، شامخة برأسها شموخ البلد نفسه.

ركبت سيارة أجرة في الطريق إلى فندقي. حدثني السائق عن تعدد الأديان في البلد، ثم أخذ يحذرني من تناول الأطعمة في بعض المحال لأن اللحم غير مذبوح على الطريقة الإسلامية، وأخذ يخبرني أين يمكنني أن أجد ملابس مناسبة للشرق. أخذت أسأل عن عدد السكان وعن العملة وعن..وعن..يعيش في سنغافورة…نسمة وعملتها الدولار وهي عملة قوية للغاية، الدولار السنغافوري الواحد تقارب قيمته ثلاثة أرباع الدولار الأمريكي. عند الفندق سألت السائق: "وهل أنت مسلم"، ابتسم تلك الابتسامة الهادئة التي تميز أهل آسيا الشرقية، وقال: "لا.. أنا بوذي، ولكن شريكي في هذا التاكسي مسلم".

"أخيرا، فراش ووسادة، مرهقة يا ربي جدا، مرهقة كما لم أكن من قبل" هكذا حدثتني نفسي وأنا ألقي بنفسي على فراش فندق شيراتون الوثير…على بعد آلاف الأميال من وطني.

نمت بعمق شديد وأيقظني ما يشبه الدغدغة الناعمة على وجهي، فتحت عيني ولم أتحرك من مكاني، مازالت الدغدغة موجودة، غاص قلبي بين أضلعي، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ قفزت مع تحريك رقبتي بقوة وسرعة، سقط من على رقبتي شيء كبير أسود بحجم إصبعين..يا إلهي صرصار!! تحرك هذا الأخير على الأرض بثقل ووقار شديدين. أما أنا فقد قفزت إلى الباب وفتحته وصرخت علي خدمة الغرفة، جاء الرجل مهرولا: "خيرا سيدتي خيرا !!" أشرت إلى الزائر على الأرض، ضحك الرجل وقال: "آه.. هذا" وأمسكه بيده ثم سحقه!!

اليوم الأول للمؤتمر استيقظت مبكرا جدا، كانت حوالي الخامسة. الجو شديد الرطوبة والاستوائية. ارتديت ملابس خفيفة. الجلسة الأولى للمؤتمر تبدأ حوالي التاسعة مما يعطيني الوقت الكافي للسير حوالي الساعة، وتناول الإفطار، ثم أخذ حمام بارد.

خرجت من باب الفندق لأجد نفسي في طريق ممتد طولا وعرضا، يقابل الفندق حديقة غناء ، كانت أمي تقول إن الحدائق في بلادنا أكثر كلفة منها في أي بلد آخر حيث الأمطار الغزيرة في البلاد الأوربية تيسر الكثير من المجهود، الواقع أن سنغافورة تجمع بين الأمرين، فإضافة إلي كونها بلدا استوائيا غزير الأمطار فإن الأفراد والدولة يبذلون من الجهد الكثير للحفاظ على نظافتها ورقيها.

رأيت إلى جوار الحديقة محطة باص انتظم فيها مجموعة كبيرة، أغلبها من الطلبة، في صف لا يزاحم فيه أحدهم الآخر، يركب كل منهم في دوره ويفسح صغيرهم لكبيرهم، هل أجرؤ وأحلم بمثل هذا النظام يوما في بلادي؟ لا أجرؤ فقط على الحلم، وإنما أتعدى هذا إلى اليقين ، نعم يوما سأراه حقيقة وسينعم أهل بلادي بكل هذا، ولكن على أصحاب الحلم أن يؤمنوا به ويحملوه معهم ويدفعوا به لغيرهم.

دفعني الفضول إلى السير خارج الحديقة لأكتشف ما حول الفندق من أماكن ومبان، عرجت في طريق طويل تقع على جانبيه مبان قصيرة تدور بين الفلل الصغيرة، والمباني رباعية الأدوار وكل منها تحوطه أو تتقدمه حديقة بهيجة. لا شك أن سنغافورة من أجمل بقاع الدنيا، فالنظافة وأناقة المباني على بساطتها والخضرة المنتشرة في كل مكان مع ألوان الزهور الاستوائية الزاهية تهب عين الرائي راحة وبهجة وامتدادا.

إنها المرة الأولى التي أشارك في مؤتمر يدور حول موضوع من موضوعات الصحة العامة، لم أجد في البداية أي شخص من بلادي، ولكن بعد قليل سمعت ورائي أصواتا عربية، وقفت وتوجهت نحوهم وتعرفت بهم ثم عدت إلى مقعدي.

مازلت أدهش من أحوال العرب على رغم عروبيتي. لقد أمضى هذان الزميلان كل فترات الغداء والعشاء التي جمعتنا في مناقشات هجومية على سياسات البلاد المختلفة وعلي مذهب كل منهما الديني، فأحدهما سني والآخر شيعي، ولم يسعني سوى الصمت وتأمل الحدث، هل هذا أفضل ما يمكننا تقديمه لبعضنا ونحن على بعد آلاف الأميال عن أوطاننا؟ وهل هذه هي الصورة التي يمكن أن نتركها وراءنا في نفوس متأملينا والناظرين إلى هؤلاء القادمين من بقاع الشرق المختلفة؟ ألا يمكن للخلافات أن تتوارى؟ ألا توحدنا ولو حتى الغربة الواحدة ؟ لقد انتهى بنا المقام نحن الثلاثة بقية أيام المؤتمر في مجموعات مختلفة مع جنسيات أخرى ولم نتبادل أرقام الهواتف والعناوين كما فعلنا مع بقية الحضور.

قال أحد أصدقائي الإنجليز على لسان أحد أبطال قصة لم يكملها بعد: في آسيا الشرقية تجد إسلاما رقيقا لين الجانب ليس به عنف إسلام الشرق الأوسط..". الواقع أن الصواب جانبه في هذا التعليق فالإسلام دين السماحة، أما التباين في الأداء فهو تباين سعة القلوب و سماحة النفوس.

إنما يتعين علي أن أقول إني رأيت في سنغافورة ما لم أر في بلاد كثيرة متعددة الأديان، ففي سوق يسمي السوق القديم وجدت المعبد الهندي يقوم إلى جانب الكنيسة إلى جانب المسجد إلى جانب المعبد السيخي، ويجمعهم ليس فقط وحدة المكان وإنما الطراز المعماري أيضا، فالأسطح مسقوفة والجوانب مفتوحة للهواء الطلق، فيرى السائر في السوق المتعبدين كل يمارس شعائر دينه في سلام. وفي بلد تقطنه قلة مسلمة ينوه عن موعد الصلوات الخمس في التلفزيون يوميا.

قطعا لسنغافورة طبيعة خاصة، فهم يتعاملون بعملات متعددة منها الدولار الأمريكي وعملة مملكة برونوي، ويتحدثون بألسن عدة فلغاتهم الرسمية تشمل الماليزية والصينية والإنجليزية والتامولية واللغة التي يفهمها الجميع بالطبع هي الإنجليزية.

إنها رحلة العودة الطويلة مرة أخرى، لم يكن لدي فرصة للقيام بنزهة نهرية في نهرهم الكبير ولا لزيارة بقية المعالم التي سمعت عن روعتها، للشرق جاذبيته التي لا تقاوم في قلبي. من يدري قد يكتب لي زيارة هذا المكان مرة أخرى، وربما لا أكون وحدي. أما الآن فعلي أن أعود سريعا، لماذا؟ لأني سوف أؤدي بعد عودتي بيوم واحد مناقشة رسالة الدكتوراه التي استغرقت من الصبر أكثر من الجهد، ورافقتها عواصف وأعاصير عدة حتى بلغت بها بر الأمان مع توقيع الأستاذ المشرف على صك الصلاحية، فمعالم سنغافورة يمكن أن تنتظر أما مصيري فلا.

وجدت أخي الصغير في انتظاري عندما هبطت مطار القاهرة، ماله متجهما هكذا؟! ماذا هنالك؟ قال بغموض:"عندما نستقل السيارة سأخبرك" ، " فتنة جديدة في الإسكندرية، أستاذك كان في محرم بيه وقت اندلاع الأحداث فأصيب، فتم تأجيل المناقشة"، أما كان أحرى بي رؤية معالم سنغافورة؟.

هناك تعليق واحد:

L.G. يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم
فيما يخص هامش الترحال 2 لم أفهم شيئاً وأعتقد أنه يعبر عن شئ شخصي لم أتوصل له .
ستغافورة
من شخص لم يتخطى حدود الجمهورية سعدت بتجولى مع كلماتك في سنغافورة
تعلمت ألا أرتبط بأي شخص ارتباط وثيق لأنه يكون مؤلم جداً فلا أرتبط بأي شخص مهما كان قربه مني لكي أتحمل إن كتب على الابتعاد عنه ولو لفترة أدام الله عليك صحبة من تحبينهم
في مكتبة الاسكندرية ومع اعتدال جو المحافظة يعاني الزائر من برودة التكييف حتى أن الموظفين يرتدون ملابس لحمايتهم من التكييف :))
طبعا بخاف من الصرصار ؟ ولكن هل هو أمر طبيعي تواجده معك بالغرفة ؟سمعت عن النسانيس الحمد لله أنه صرصار
المشكلة في الشرق الاوسط الضلم وغياب العدل وهذا سبب كافي لتناحر أصحاب الملة والمذهب الواحد وليس المذاهب المختلفة
لا هدوء لأن الناس تعيش تحت وطأة الظلم
عن نفسي كنت ضحيت بالدكتوراة من أجل التجول في شارع جديد وأن تخطو قدمي خطوة زيادة في ملك الله ..
كان أحرى بك تكملة التجول :)))

تحياتي