سلسلة على هامش الترحال 3- الصحراء

الصحراء
(3)

أيقظتني حرارة شديدة. أكاد أشعر بتفجر جسدي من شدة الألم. رفعت رأسي ثم أقمت جسدي من رقدته، ما هذا؟ أين أنا؟ حولي في جميع الاتجاهات امتد اللون الأصفر معانقاً الأفق، أهذه صحراء؟ نعم إنها الصحراء. أأنا هنا وحدي؟

آخر ما أذكر هو ذلك الشباك ، تلك النافذة الخشبية طولية الهيكل، قديمة المظهر، تشقق طلاؤها الرمادي من الرطوبة والزمن، ذات أشرعة صغيرة، هل كانت مفتوحة؟ هل كان يطل خلفها ذلك الفراغ الصامت الذي يفترش المنازل قبيل الغروب؟ لا أذكر. لقد كنت واقفة في الطريق أرفع رأسي لأشاهد النافذة... هذا آخر ما أذكر...ماذا حدث بعدها؟ كيف أتيت إلى هنا؟

يبدو أني وحدي تماما، لا أرى حولي إنساناً ولا حيواناً والحرارة تشتد ... لا مياه.. لأسر قليلاً عساي أجد أنيساً في هذا الوجود الصحراوي الممتد. وقفت، آه.. ما هذه السخونة؟؟ يا لسخونة الرمال وخشونتها! حبيبات صغيرة يساند بعضها بعضا، تتدافع في سلاسة تحت قدمي وبين أصابعي لتدفع باللهب إلى قمة الرأس. أين ذهب حذائي؟ هل علي فوق كل هذا أن أسير حافية؟ وهل لدي خيار آخر؟ أأنتظر في مكاني حتى يظهر أحدهم؟ و إلى متى الانتظار؟

ولكني انتظرت قبل ذلك، انتظرت أمام تلك النافذة ... ماذا كنت أنتظر؟ كيف لا أذكر؟ لكني انتظرت... وقفت هناك... خلفي شاطئ البحر... ونظرت إلى النافذة... غصت فيها بعمق نظري... وقفت هناك تطل على النافذة بكل ..بكل ماذا؟ ما هذه النافذة؟ أين كانت؟

لا يهم. الآن علي أن أخرج من هنا، من هذه الصحراء الممتدة. طالما أحببت الصحراء، تجردها، تلالها الرملية الصغيرة، نخيلها وواحاتها، هواءها الجاف، امتدادها امتداد البحور، ولكنى لم أتصورها بهذه الحرارة وهذه الوحشة. في أي اتجاه أسير؟ نعم إلى الأمام.. إلى الأمام.

أشعر أن قدمي سوف تخذلانني في أي لحظة، إن السير في الرمال أكثر مشقة مما ظننت إنها ليست بنزهة على شاطئ البحر المتوسط فوق رماله الناعمة المشبعة بلطف المياه. إنها الرمال الحقيقية الآن. الرمال كما لم أعرفها من قبل. ساخنة وحادة، حدة لا تعرف معها الرحمة السبيل إلى حبيباتها الصغيرة القوية.

لقد شعرت من قبل بقوة الصغير من المخلوقات... خبرت هذه القوة عندما تجمدت تلك القطرات المائية الصغيرة فوق جفوني وأنا أنظر إلى النافذة...كانت متجمعة في قوة، رغم صغرها، تتأبى علي الانطلاق، ترفض تلك الحرية التي منحتها لها، ظلت هناك فوق جفوني، وقفت معي تراقب تلك النافذة... المفتوحة. رجوت منها الانطلاق.. تمنيت عليها الانسياب فأبت، ساعتها تحركت إحدى أضلاع النافذة وبزغ خيط ضوء ضعيف. أكان الهواء البحري هو من حركها أم شيء آخر؟

إلى متي سأحتمل هذا الجفاف؟ لم يعد في فمي أي قطرة ماء. حلقي يشققه الجفاف. علي أن أجد الماء في سرعة وإلا فنيت بين رمال هذا الامتداد الهائل. لا أملك حتى أن أرتاح قليلاً من عناء السير. أقدامي تغوص بقوة في الرمال، تصل الرمال في كل خطوة إلى ما يقارب ركبتي. والألم يشتد بين أصابعي. ألم له لهب الحريق وحدة الأسلاك المعدنية. لألقي نظرة عليها، يا ربي لقد تشقق ما بين الأصابع في جروح طولية متعددة، ، وتسللت الرمال في الجراح، مختلطة بالدم، مسببة ذلك الألم الحاد. لابد من تنظيفها وتغطية الأقدام لحمايتها من أي إصابات جديدة. شققت قميصي.. أخذت منه رقعتين.. لففت واحدة على كل قدم.. ثم وقفت..، آه.. إن الألم قاس للغاية.

نعم كانت مفتوحة...أطلت علي النافذة بكل قسوة.. قسوة الذكرى التي لا تذهب..قسوة وجودها بعد الذهاب.. حياتها بعد الموت.. بقائها رغم الفناء. هذا الجماد القائم هناك صمد بعد أن ذهب الجميع ، لا يهم الآن... سأواصل في الصحراء سيري ثم أفكر لاحقا.

لم يزد ما أمامي عن رمال ممتدة امتداد نظري، وحرارة تكاد تذهب ببصري. ألن أجد الماء؟ ألن أجد الظل في أي مكان في هذه الصحراء المترامية الأطراف؟

عطشي وتشقق حلقي يذكراني بهذه القطرات الندية التي ارتكزت حول النافذة الرمادية. يوماً وراء يوم طالما خلف هواء البحر الندي الرطب هذه القطرات وراءه. كانت جدتي تمسحها بقطعة القماش الوردية بعد أن تبللها بالمعطر ذي رائحة الفل ليحمل الهواء في عبوره هذه الرائحة الندية إلى من كانوا يوماً خلف النافذة. كل ما أريده الآن قطرات، بضع قطرات، كتلك التي مسحت مرارا.

لاحت بشائر خضراء، فقط بضع خطوات، بضع خطوات أخرى وأطاول هذا الظل القائم هناك. تحملي أيتها الأقدام، اصبري أيتها النفس، إنها لحظات وأصل إلى ما صمد الصبر لملامسته، لرؤيته، للتمرغ بين ظلاله، للارتواء من تدفقه. الألم يحرق أصابعي المجروحة والحرارة الشديدة تخترق الملابس المهلهلة لتصل إلى عمق الخلايا تعمل فيها لسعاً وتقتيلاً. لن يتحمل الجسد، ثقل عليه التعب والعي.

ناءت الروح تحت وطأة الذكرى، النافذة مفتوحة، من هناك؟ من هناك؟ من دخل من الباب المغلق؟ من خطا فوق خطوي؟ من تراه الآن في فراشي تلامس جلده أغطية، كانت لي، تدفع بنعومتها وبرودتها الراحة في خلاياه بينما أنا في هذا القيظ المقيم؟ من يوقظ الذكرى ويوقد النيران تحت القدر المنسي؟ من عاد وأنا في التيه؟ من وضع يده فوق تلك الستائر ودفع بها بقوة متجنباً تمنعها أحياناً وأزاحها عن النافذة؟ من؟ من هتف من هذا العلو بعد هذا الأمد؟ من؟ هل هذا الشعاع شعاع مصباح شرقي اشترته أمي لتضيء به ظلام ما وراء النافذة وهي تقول للبائع الذي حاول إغراءها بالمصابيح الغربية "مش دافيه " هذا الدفيء الذي تنفس عبر النافذة حتى أغلقتها بلا رحمة يد الموت. سقط جسدي فوق الرمال الساخنة. أغمضت عيناي في استسلام، أتراني لن أصل؟

لن أدع الحر يتغلب علي، لن يهزمني العي، بعد أن قطعت ذلك الشوط الطويل، سأغالب الإعياء والضعف... تعالي أيتها القوة تجمعي هنا في قدمي.. ساعدني يا الله..ساعدني لأقف. قامت ريح شديدة حملت معها حبات الرمال الصغيرة القوية. الرياح تضرب وجهي وأنا أسير. إن الشقوق تنتقل من الأصابع إلى الوجه، لكن الرياح تساعدني رغم ذلك فهي تدفع بي للأمام، أنا أتقدم والظلال البعيدة تقترب، إنها على امتداد أذرع معدودة. أشعر بملمس لزج على وجهي، ما هذا؟ أحمر؟ من أين جاء هذا السائل؟ إنه يتدفق من شقوق وجهي.. من الجراح الجديدة. سأشربه، لا يهم سأشرب مهما كان اللون، صرت أمسح وجهي بأصابعي وأشرب لكني لا أرتوي لا أرتوي.

أخيرا.. إنها الواحة..أراها أمامي..يا للجمال! سألقي نفسي في هذه المياه المتجمعة.. جريت وجريت..أخيرا، المياه ستلامس جسدي وتغسل جروحي.. سأغرق رأسي وشعري بها.. قفزت..سقطت في الرمال.. لقد أخطأت البحيرة.. سأحاول مرة أخرى.. لماذا أخطئ؟ أنا أراها أمامي.. فكيف أخطئ؟ مددت يدي قبل أن أحاول القفز مجددا.. بأصابعي حاولت لمس المياه لكنها لا تلامس إلا رمالا.. أترى هذا سراب وليس حقيقة؟ آه لم أعد أحتمل السراب يطاردني ورجع الصوت يملأ أذني.

عندما وقفت هناك أمامها في سكون وجمود سمعت تلك الأصوات. كانت ضحكات وأصواتاً لا تنقطع... ورائحة مخبوزات جميلة...كنافة من غير حشو للأطفال وأخرى بحشو للكبار.. رائحة مكسرات أم علي... تلا ذلك بكاء وتوجع وأنين واستمر الأنين ضعيفاً منتظماً لا يقطعه شيء. ولكن كيف كنت أسمع؟ لقد كنت أري النافذة عبر الطريق وهي مرتفعة.. بعيدة..بعد السعادة عني.. بعد الأمل مني.. لم أكن أسمع شيئا.. لقد كان هذا رجع الصدى جاء حياً عبر السنين. آه أكل هذا ضرب من ضروب الوهم ولم يكن حقيقة؟ لأترك هذه النافذة الآن.. علي أن أخرج نفسي أولاً من هنا.

يجب أن أرسم خطتي.. لن أظل هكذا.. لقد سرت إلى الأمام في هذه الصحراء بما يكفي.. علي الآن التحول إلى اتجاه آخر..الطيور حرة تحلق في سمو وعلو.. لماذا تعبر هذه الصحراء؟ ما الذي أتى بها إلى هذا المكان القفر؟ لكنها قد تحمل الخلاص، سأتخذها دليلا.

لقد دفعتني النافذة إلى هذه الصحراء.. دفعني خواء بعد امتلاء.. ها قد بدأت أسترجع التفاصيل التائهة. كان فراغاً لا يحتمل.. على قدر برودة هذا الفراغ كانت حدته الجارحة... ولكن هل للصمت والخواء قوة كي تدفعني إلى هذه الصحراء...إلى هذا الألم؟؟

لابد أن للطيور منزلاً في مكان ما و ربما كان لها موطن، وهي ستتجه إليه، مهما بعد، لقد مالت الشمس، إذا فالطيور عائدة. سأتبعها،إنها تتجه يمينا. إنها سريعة، قوية، حرة. بدأت الحرارة في الهبوط، الحمد لله سوف تهدأ الجراح. لا ينقصني إلا المياه. الرمال تزداد نعومة ورطوبة.. مع هذا يزداد السير صعوبة. فقط لو تبطئ الطيور قليلا. لكنها تعرف وجهتها فلماذا تبطئ؟ ألوانها جميلة تعانق السماء في سمو وانسجام كأنها جزء من هذا الفضاء الواسع منذ الأزل. إنها تبتعد كثيراً لا أملك أن أحافظ على المسافة بيننا، يا ربي إنها تذهب، لا.. لا تتركيني. لكني أنا التي لا أتحرك إن الرمال ناعمة، تجرني، تسحبني، تريدني جزءاً منها إلى الأبد.

من كان هناك؟ من؟ إن النافذة مفتوحة.. لا بد أن أعرف من واقف هناك وراءها. من وسط الرمال، مددت يدي، آه لقد لامستها، بأصابعي دفعت ضلفتيها على مصراعيهما. وصلت الرمال إلى خاصرتي، يا ربي إن الصحراء تناديني، لكن من هذا؟ لابد أن أعرف قبل أن أذهب في الرمال. أخيرا… كل ما وراء النافذة أمامي، يا إلهي، غير ممكن!! غير ممكن!! هاتان العينان … أما غادرتا يوما؟ أما زالتا خلف النافذه؟؟ لقد أغلقتها يد القدر فذهبنا جميعا ، في ذلك اليوم المشمس على برودته، أمازلتا هناك؟؟
تسحبني الصحراء...لم أعد أقدر على المقاومة...أعياني وجع الروح قبل وهن الجسد...ذهبت الطيور...الرمال لها قوة عاتية... تعلو فوق قدمي...ترتفع...تغمرني...تغرقني...تتسع النافذة وتتسع بينما أذهب في الرمال...

ليست هناك تعليقات: