سلسلة على هامش الترحال 11- الأختين

الأختان
(11)

رحلة طويلة ومرهقة، أتت من باكستان حيث تقيم وتعمل في الجامعة الإسلامية إلى لندن، استبدال طائرات في دبي مع انتظار سبع ساعات للحاق بالطائرة الأخرى، آخر ما كانت تتمناه هو هذه الرحلة بعد انتقالها من منزل لآخر مع كل ما رافق ذلك من مجهود وتغييرات، ولكن تأتـي الرياح بما لا تشتهي السفن.

نسيت كل التعب وهي تضم أختها بين أحضانها في المستشفى ، ولدت أختها ولادة مبكرة لارتفاع مفاجئ في ضغط الدم وأتت سلمى لتمضي معها عدة أيام.

بعد الأحضان وتبادل القبلات أخذتها أختها لرؤية المولود، غير مسموح للأخت بالتحرك إلا على كرسي متحرك لعدم استقرار الحالة بعد، ذهبتا إلى غرفة الأطفال المبتسرين، فإذا بكائن صغير لا يتجاوز وزنه 600 غرام مسجى في الحضانة، مدت أختها يدها إلى داخل الحضانة وأخذت تلاعبه وهو كالقطط حديثة الولادة، مغمض العينين ويتحرك في المجهول، وإن بدا مطمئن البال. قالت أختها إن الأطباء طلبوا إليها أن تحدثه أو تغني له ما اعتادت أن تفعله لإخوته وهي حامل به، حيث إن الطفل في بطن أمه يألف الأصوات التي يسمعها خاصة صوتها هي، " ولما كنت لا أحفظ أي أغان، ولا أذكر من قصص أبيك لنا قبل النوم سوى أسماء مبهمة ، الجنينة المسحورة، السحلية نملية، القط مشمش، البلية حنتوسة، فقد قررت أن أقرأ له القرآن، وهو ما أفعله عادة مع الأولاد قبل النوم، ويظن الجميع هنا أني أقرأ قصة بس كبيرة شوية" ضحكتا.

نأت الأختان عن بعضهما منذ زمن بعد... بعد اجتماعهما معا في منزل أبيهما صغيرتين، ثم شابتين، ثم امرأتين كل في بيت زوجها. نشأتا لأب صعيدي، في مجتمع محافظ في صعيد مصر، ترمل الأب عليهما وهما بعد جد صغيرتان، لم يتزوج مرة أخرى حتى ألحتا عليه وكل منهما متجهة إلى ركن من أركان الدنيا لإكمال دراستها. جاهد الأب الذي يعمل بالطب لتربيتهما بصورة رفضها كل من أقارب أمهما رحمها الله وأقارب الأب أيضا، كان مثقفا، متجاوزﴽ لموقف أهل الصعيد التقليدي من النساء، يتحدث ثلاث لغات، ورث كثيرا من الأرض الزراعية، وذا هيبة في بلده ووسط أهله، فلم يجرؤ أحد على الاعتراض على طريقته في تربيتهما، وكانت التعليقات لا تقال إلا أمام البنتين في غياب الأب.

فرق بينهما ما كان يجب أن يقربهما أكثر من أي شيء آخر، استقلالهما وقوتهما اللتان منحهما لهما أبوهما، نشأتا مستقلتين قويتين، لم يكسرهما أخ ولا أب، فلا أخ لهما وأضافت قوة أبيهما وهيبته في الأسرة لهما قوة، كان الأب صارما شديدا فيما يمس استقلال البنات أو فيما يتعلق بتقليص تجاربهما بكل أخطائها، كان شرطه الوحيد ألا يكتما عنه من أمرهما شيئاﹰ "علشان اللي ما لوش كبير يشتريله كبير" و"علشان إحنا أمة حياتها في السر والعلن مبنية على الشورى والتشاور".

في خضم الحياة بكل ما فيها، في ظل اختلافهما عمن حولهما من البنات والأقارب، ومع عزوف الآخرين عنهما لاختلافهما، فهذه الخالة لا تود لبناتها الاختلاط بمن يقرأ إحسان عبد القدوس في إعدادي، وهذا العم يرفض أن تذهب ابنته وحدها عند بنتي أخيه اللتين يقرآن لنجيب محفوظ كاتب رواية "أولاد حارتنا" التي منعها الأزهر، رفضت أسرتهما أن يكون لهما برنامج قراءة صيفي تنشغلان به عن الأسرة، أو أن يعملا في الصيف بترتيب من أبيهما مما يمنعهما عن المناسبات العائلية في عائلة يلتحم أفرادها بقوة. لم تفهم البنتان سر هذه العزلة الاجتماعية المفروضة عليهما، تألمتا من وحدتهما واختلافهما، عز على كل منهما أن تبوح للأخرى بألمها، عز على كل واحدة منهما أن تلتمس عوناﹰ لدى الأخرى فما كان منهما إلا أن بنيتا مساحة صامتة، لا تتحدثان عما يحدث، وتتظاهران بعدم سماع الآخرين وتعليقاتهم، ولا تلتقيان بالا لجارهما التاجر الكبير إذا ما التقاهما صدفة يضرب كفا بكف وهو يقول: "يا ولداه مين فيكي يا مصر هيجوز الرجاله دي". وبالفعل تزوجت كبراهما من باكستاني كان يدرس معها في جامعة ليدز الإنجليزية، وتزوجت الصغرى من إنجليزي مسلم يدرس الاقتصاد في كلية لندن للدراسات الاقتصادية.

ألم الرفض والعزلة واتهامهما الدائم بالمرجلة والقوة الزائدة سكن نفسيهما، لم تكونا لتسمحا لنفسيهما برؤية ما بداخلهما، وخشيتا أيما خشية إذا ما اقتربتا من بعضهما أن ترى كل منهما ما يعتمل بصدر أختها، دفعهما ذلك بعيدا عن بعضهما ، كل منهما تعالج هذا الكم الهائل من المشاعر وحدها، يعز عليها البكاء أمام الأخرى، أو التعبير عما تشعر به، الرفض غير المبرر من الآخرين لاستقلاليتهما ولوجودهما قادهما لرفض كل منهما الأخرى وكأن كلاﹰ منهما كانت سببا لما تعانيه أختها، لم تكن كل إحداهما بقادرة على حماية الأخرى من الآخرين أو حتى من نفسها فهكذا نشأتا ولا يد لهما فيما يراه الآخرون، رفضتا نفسيهما كل واحدة في صورة أختها، وزادتهما محن الحياة بعدا عن بعضهما.

الآن إذا نظرت سلمى إلى أختها المسجاة في الفراش شعرت كم كانت رحلتها هذه ضرورية، فبعد سنوات لا عدد لها من البعد، لا تجمعهما سوى شكليات الحياة ولا يفتحان قلبيهما لبعضهما، وتمر كل منهما بالمحنة فلا تعلم الأخرى عنها شيئا سوى من أبيهما، كان ضرورياﹰ بعد كل هذا أن تنصهرا في تجربة نسائية حميمية تصهر كل الألم الذي خلفه كل ما فات، تجربة نسائية تضعهما أمام السبب الرئيسي لبعدهما عن بعضهما، أنوثتهما، وما أكثر حميمية من أم تحمل وتضع مبكرا وتعذبها مشاعر أمومتها قلقا على رضيعها. فتحت أختها عينيها وقالت لها: " شكرا إنك جيتي"، ردت سلمى وقد تجمعت الدموع في عينيها: "لم أكن لأسامح نفسي إن لم أفعل".

أطفال أختها كالأقمار المنيرة، تفتح وإقبال على الحياة، قوة وشجاعة لم تكسرها الدنيا بعد ، مرتها الأولى التي تقترب فيها منهم، جاء الصغار لزيارة أمهم في المستشفى، عندها تحدثت أختها معهم بالإنجليزية، سألتها سلمى: "لم لا تحدثينهم بالعربية؟؟"، قالت أختها: "كنت أفعل هذا حتى دخل الكبير المدرسة وصار لسانه يميل إلى الإنجليزية، وعزف عن الكلام معي ظنا منه أني لا أتحدث اللغة، حتى فوجئ بي أتحدث في أحد المحلات بالإنجليزية فسألني منبهرا ماما انتي بتفهمي الكلام ده، وصار لا يتوقف عن الحديث، فظننت أنه من الأفضل أن أظل أتحدث معه الإنجليزية مما يقوي صلتي به، وكلي أمل أن تتسلل العربية بحكم كل العوامل الأخرى"، صراعات الغربة لا حدود لها ولا تنتهي أبدا، كلما ظن الإنسان أنه تجاوزها ظهرت له أخرى.

كانت زيارة رائعة، اشتركت سلمى وأختها في كثير من الأحاديث، أتيتا بالماضي السحيق وسحقتاه معا، زارتا الصغير معا في الحضانة وبرؤيته هكذا صغيرا ضعيفا مقاوما، صغر كل ما كان بينهما أمام هذه الحياة، أمام معجزة ميلاد في الشهر السادس.

في المنزل بعد ساعات المستشفى، لعبت سلمى مع أطفال أختها، طبخت معهما، حكت لهما حواديت قبل النوم عن أسرة كنج كونج وكونجيجي الصغير وكونجاية، وهي أسرة الحيوانات التي تحكي لولدها عنها قبل النوم.

اليوم الأخير في زيارتها، أمضت بعض الوقت مع أختها في المستشفى، زارت الصغير في الحضانة، حضرت بعض الطعام للأسرة ليكفي الأولاد وزوج أختها في الفترة القادمة، وفي المساء حكت للأولاد حكايتهم قبل النوم ثم وهي تقبلهم قالت لها الصغيرة: "إنت بتبوسيني كتير..."، "مش عايزاني أبوسك؟"، "أيوه أنا بكره البوس...علشان ده حاجه ياكي" ضحكت واحتضنتها وقالت لها: "حاضر هبطل أبوسك خالص"، فسأل الصغير: "وهتبطلي تبوسيني أنا كمان؟؟"، فقالت له: "حسب إنت عايز إيه"، "فقال لها: "أنا عايزك تفضلي تبوسيني"، قبلته وهي تقول تصبحوا على خير"، سألها ابن أختها: "إنت مسافرة لأولادك؟؟" فقالت له: " أيوه"، "طب هشوفك تاني يا خالتو"، اعتصر السؤال قلبها وهي تقول: "طبعا افتكر دايما كونجيجي وانت هتشفني في قلبك لحد ما أشوفك تاني".

ذهبت لتودع أختها، وهما تحضنان بعضهما، انفجرت صغراهما بالبكاء وهي تقول: "بعدما وجدتك تذهبين مرة أخرى"، " لن أذهب أبدا، ما فرقنا في الماضي يجمعنا الآن...أنا بعيدة فقط بعد الهاتف منك..." تركت سلمى أختها وذهبت، وهي في الطريق تذكرت ورقة كتبتها لها أختها يوم ذهبت لأول معسكر صيفي في حياتها " تمنياتي لك بوقت ظريف.. وسعيد... عساك لا تنسين أبدا أختك التي تزاحمك غرفتك..." ومهرتها بتوقيع "عدوتك الظريفة" كان هذا منذ ما يزيد عن خمس وعشرين سنة.

ليست هناك تعليقات: