سلسلة على هامش الترحال -12 برمنجهام

برمنجهام
(12)

تغيرت دنيا المسلمين جذريا بعد 11 سبتمبر، أدركت سلمى هذا عندما نزلت عليها إجابة المضيفة المسؤولة عن استراحة درجة الأعمال في مطار زيورخ كالدش البارد عندما سألتها عن موعد الطائرة حيث قالت: " لو لم تكوني مرتدية هذا الشيء على رأسك لتمكنت من سماعي عندما قلتها أول مرة". لم تدر سلمى ما تفعل، لم يكن بيدها سوى التهديد برفع شكوى ضد شركة الطيران من المعاملة غير المسؤولة التي تلقتها، لم تعتذر الموظفة وإنما اعتذرت زميلتها.

طبعا طالت مدد التفتيش عن أي سفر سابق، طلب إليها خلع الحذاء وغيره في نقاط التفتيش المتعددة في المطار، سألوها أسئلة عجيبة، تم التحقق من جواز سفرها أكثر من مرة.

في الطائرة وهي في الطريق إلى مدينة برمنجهام حيث المؤتمر الذي دعيت إليه، مالت بالكرسي إلى الخلف لتجد فجأة من يقرصها في يدها، فزعت ونظرت إلى الخلف فإذا بامرأة في العقد الرابع من العمر تقول لها بلهجة آمرة: "إرجعي بكرسيك إلى الأمام"، ردت سلمى: " هناك طريقة ألطف لطلب ذلك"، فكررت المرأة كلامها بذات اللهجة الآمرة المتعالية، فلم يكن من سلمى سوى أن أدارت وجهها ولم تلق بالاً للسيدة، فإذا بالسيدة تظل تدفع الكرسي بيدها وقدمها من الخلف وتدفع بسن قلم في يدها في رأس سلمي بينما تكيل لها اللعنات، المسلمة، الساقطة، الملاعين المسلمون يظنون أنهم يملكون الدنيا، عليك اللعنة يا ساقطة. ولم تكن سلمى ترد وإن قطعت هذه الوصلات التي استمرت طوال الساعة هي مدة الرحلة من فرانكفورت إلى برمنجهام بقولها للمرأة: "ياله من سلوك متحضر!"، وتارة: "أهنئك على سلوكك" أو: "فعلا أوروبا أم التحضر". العجيب أن أحدا من الجالسين حولهم لم يحرك ساكنا بما في ذلك المضيفون.

بدت سلمى قوية وصامدة أمام تلك المرأة المختلة، ولكن ما إن وطئت قدمها أرض المطار حتى توجهت إلى دورة المياه وانفجرت هناك في البكاء وقد اعتملت بداخلها أفكار ومشاعر عدة، لهم حق، نحن، المسلمين، هددناهم وقتلنا أولادهم بلا حق، ولكن ألم يغزُ هؤلاء بلادنا في حملة استعمارية شرسة؟ ألم يستغلونا ويستغلوا خيرات بلادنا منذ الأزل، اليوم في جريدة الشرق الأوسط خبر عن خطة أفشلها البوليس الألماني لتفجير مطار فرانكفورت متورط فيها مسلمون ألمان، ما ذنبي أنا في صراعات الحضارات هذه، أنا أحترم اختياراتهم ولا يهمني مظهرهم، لماذا يستفزهم كل هذا الاستفزاز خياري بوضع الإيشارب على رأسي؟ هل لو تخلصت منه ستكون الأمور أهدأ في الحل والترحال؟؟ وهل أستطيع ذلك بعد سنوات طوال؟ هل يردني هؤلاء وضغطهم عن ديني؟ ربي أشكو لك شكوى نبيك، اللهم إني أشكو لك همي وضعفي وهواني على الناس.

لامها أبوها فيما بعد وقال: "كان لابد من عمل شكوى رسمية وإبلاغ المضيفة رسمياً، لا يكفي أنهم يرون ولا يتصرفون كان عليك دفعهم دفعا للتصرف، إنت فاكرة نفسك في جليم لسه، كل الناس في الشارع والمحلات بتساعد وتصبح، دي الغابة يا بنتي".

لم تفارقها طوال أيام المؤتمر والجلسات المختلفة ذكرى ذلك المعسكر الذي ذهبت إليه وأختها في إيطاليا، إبان دراستهما الجامعية في نهاية التسعينات حيث عملتا مع أطفال الملاجئ في معسكر صيفي لمدة شهر. كانت الدهشة من وجودهما في هذا المعسكر تشمل كل من فيه، عربيتان مسلمتان محجبتان ترتديان الجينز وتساعدان الأطفال في حمل جراكن الماء الثقيلة بينما يعزف الكبار عن المساعدة حيث لابد للأطفال من الاعتماد على النفس، فلسفة لم تفهماها إلى أن طلب إليهما مدير المعسكر عدم مساعدة الأطفال لأن هذا المعسكر هدفه تدريب الأطفال على الاعتماد على الذات.

لم يكلمهما لمدة أسبوع أي شخص كبير في المعسكر، وإن انبهر بهما الأطفال، أوليت لهما مسؤولية خيمة الفنون الجميلة في المعسكر، فكان الأطفال يهربون من السباحة ومن الأنشطة الرياضية ويأتون للخيمة للتمتع بالصلصال والألوان المائية وغير ذلك من الأنشطة التي تشترك الأختان فيها. كانتا غريبتين لأول مرة، وحيدتين، لا يجدان حتى من يسلم عليهما أومن يحدثهما، الصمت أحاطهما، فما كان من كبراهما إلا أن ذهبت لمدير المعسكر وقالت له: " لم نكن لنأتي للمعسكر لو كنا نعلم أن هذا هو السلوك الذي سيقابلنا، نحن هنا لنستمتع بالتجربة الإنسانية بالتفاعل مع القادمين من بلاد مختلفة، وليس لنستمتع بالسباحة في البحيرة و حمامات الشمس، ما الذي يحدث؟؟ لماذا لا يكلمنا أحد؟؟". كان الرجل لطيفا ولكن لم يكن يملك إجابة كل ما قالته، قال: "أعدك أن الوضع سيتحسن". وبالفعل تحسن الوضع، أصبح يكلمهما فقط اثنان من قاطني المعسكر من أصل فيتنامي، ولكن عرفت الأختان سبب هذا الصمت العدائي عندما كانت إحداهما ذات يوم واقفة في طابور الطعام فقام مدرب السباحة بسؤالها: "لماذا تكلمان هذين الفيتناميين؟؟ ألا تريان أنهما شكل الخنازير؟!" ، وانفجر ضاحكا، ما يسرى على الآسيويين أكيد، ومن باب أولى يسري عليها وعلى أختها.

استغرق الأختان عملهما في الخيمة، صارتا لا تقطعان العمل فيها على عكس جميع الأنشطة الأخرى في المعسكر التي تغلق أبوابها ساعة بعد الغداء كل يوم، فصارت الخيمة ملاذا للأطفال في كل وقت، وأقيمت فيها الحفلات والمسابقات والمعارض، وأصبح الأطفال وسيلة تواصل الفتاتين مع بقية المعسكر، حين يأتي الصباح يتقافز الأطفال حول غرفتهما رافضين تناول الإفطار إلا معهما، أو رافضين لعب الكرة إلا إذا كانت الفتاتان من بين الحضور للتشجيع، وعندما يحرز أحدهم هدفا يجري محتضنا إحداهما، سلوك الأطفال المرحب هذا لفت أنظار بعض الكبار، وصار هناك تواصل محدود بين الفتاتين وعدد قليل من الكبار. مع انتهاء المعسكر وعودة كل إلى دياره عادت الأختان بسؤال واحد لم تعرفا له إجابة إلى الآن...لماذا؟؟

إن تنس فلن تنسى ذلك الزميل الذي كانت تنسق معه عقد مؤتمر دولي، وكان بينهما الكثير من المكالمات، كانا في غاية الود والاحترام والتعاون، ولم يسألها ولو مرة في أية مكالمة من أين أنت أصلا، فمقر عملها بفرانكفورت تختلط فيه الجنسيات والأعراق. حتى كان يوم المؤتمر وأخذت تبحث عنه لتحييه، سألت عنه فأشار له أحدهم، تقدمت لتحييه فإذا به ينظر إليها بدهشة لم يستطع كتمانها ويقول لها في عجب: "دكتورة سلمى..."، "أيوه أنا هي"، "أنت الدكتورة سلمي"، "نعم..."، "سعيد بلقائك" ولم يوجه لها كلمة بعدها أبدا، وكأنما دق بينهما عطر منشم، وأصبح يتحاشى حتى الوجود معها في أي مكان. عندما روت لزوجها هذه الواقعة قال: "عنصري ابن كلب". ولكن هذه إجابة لم تكن شافية بالنسبة لها، لماذا يتحزب البشر؟؟لماذا ننحاز بلا بصيرة لعرق ولون أوضد زي أو دين؟؟

مضت جلسات المؤتمر بحلوها ومرها، خرج الوفد في جولة في مدينة برمنجهام لرؤية القناة الشهيرة بها ، وهي شيء أشبه بالترع المصرية وإن كان الإنجليز قد صنعوا منها مزارا ومركزا ترفيهيا ببناء نوافير حولها وإنشاء العديد من المطاعم ومد شبكة من الطرق الصغيرة المتعددة التي يحلو للمرء السير فيها. تناول الوفد طعام الغداء على حدود برمنجهام في مطعم بسيط بمنتزه يعتبر قانونا محمية طبيعية مركبة بها مناظير في كل مكان لهواة مراقبة الطيور، وفي كل المنتزه علقت لوحات تنبه إلى محاولة تجنب السير على الحشائش أو دهس الأشجار الصغيرة لقيمتها الكبيرة للمحمية.

أشار مرشدهم في طريق العودة إلى مبنى كبير وقال لهم إن اسمة حلقة الثور "بول رنج"، وهو مركز تجاري كبير جدا نشأ على بقايا سوق قديم وكان في الأصل المركز الأساسي لبيع الثيران في وسط إنجلترا. برمنجهام بلد صناعي يتسم بالجدية لهذا السبب، قال لها المرشد وهو يشير إلى منطقة في شارع "كوفنتري روود": "تسمى هذه المنطقة بسمول هيث حيث يسكن أغلبية المسلمين المقيمين في برمنجام ، وهذا الجامع يصلي فيه المسلمون بكل اللغات في الأعياد والمناسبات الرسمية".

وهي في صالة الانتظار في المطار بعد انتهاء المؤتمر، ضمت كفيها معا، ونظرت لهما مليا، وأخذتها الذكرى البعيدة لملعب كرة القدم في المعسكر الإيطالي، لاحت صورة باهتة لفتاة صغيرة جالسة باستكانة في حضنها وهي ممسكة بإحدى كفي سلمى تدعكه بقوة سألتها سلمى: "ما الذي تفعلين روزان؟؟"، "لماذا لا تستحمين سلمى؟؟"، "من قال هذا أنا أستحم دوما"، " لا لو كنت تستحمين لتغير لون بشرتك القذر هذا!!" نظرت سلمى للصغيرة روزان الإفريقية السمرة، ربيبة البيت الأوروبي الأبيض... وصمتت.

ليست هناك تعليقات: