سلسلة على هامش الترحال 14-تايلاند

تايلاند
(14)

مطار تايلاند واسع كبير كبراًً خرافياً، الانتظار طويل جدا أمام شبابيك الجوازات، الحر واضح رغم التكييف المركزي للمطار، التفتيش قوي، ولوحات تحذيرية في كل مكان تحذر من التجارة في المخدرات، منبهة للعقوبات المرتبطة بذلك.

خرج الوفد من المطار وركبنا تاكسيات في الطريق للفندق "برنس بالاس"، المدينة جميلة ومزدحمة في آن معا. وصلنا يوم الخميس، افتتاح المؤتمر يوم الجمعة صباحا، وأولى الجلسات السبت ثم إجازة الأحد ونبدأ مجددا الاثنين.

ذهبت إلى غرفتي، فسيحة جداً، وأطباق أناناس في كل مكان، وضعت حقائبي واتجهت للنوم فورا فبعد 18 ساعة طيراناً كنت بحاجة إلى راحة حقيقية.

بعد استيقاظي اتصل بي زميل من تشاد، وقال إنه ذاهب للبحث عن طعام، فاتفقنا على الذهاب معا، التقينا في استقبال الفندق، اسمه جان بيير، متزوج وله 4 أولاد، يعمل بفرع منظمتي ببلده، أخذنا نبحث عن طعام، المحلات كلها مغلقة، ركبنا تكتكاً وهو وسيلة المواصلات الرئيسية في البلد، وتوجهنا إلى مطعم في وسط البلد، سائقو تايلاند يقودون بجنون حتى تكاد تشعر بنفسك طائراً وليس راكبا.

عند نزولنا وجدنا سائق التكتك يتوجه للرجل الواقف على باب المطعم، ثم يناوله هذا الرجل مبلغا من المال، علمنا فيما بعد أن سائقي التكتك يتقاضون مبالغ مالية مقابل إرشاد السائحين إلى المطاعم. الطعام في تايلاند غريب الشكل وغريب الطعم، فهذا أرز بالمنجة، وهذا تورلي فواكه يؤكل مالحا، طلب كلانا أسماكا، ونحن نأكل قال مرافقي: "الحمد الله على الأقل طعام البحر حلال". فقلت له: "حلال...أظن لا مشكلة في قصة الحلال إلا عند المسلمين واليهود"، أجاب "صحيح...أنا مسلم"، "مسلم واسمك جان بيير!" ضحك وهو يقول: "هذه قصة طويلة...أرويها لك في الأيام القادمة".

علمت أن اسمه الأصلي جمال، كما قال: "على اسم ناصر زعيمكم...يعيش جمال في قلب كل تشادي"، كان والده من زعماء التحرير، ولد لأم فرنسية ولأب تشادي، تعلم الطب في فرنسا وانضم للمناضلين ضد الاحتلال ولم يكن زميلي قد ولد بعد، تزوج من تشادية من أسرة كبيرة مناضلة ضد المحتل، وبدأ نضاله الحقيقي عندها، كانوا زمرة من الأصدقاء جمعهم الهدف الواحد: إخراج المحتل من بلادهم، قمعهم الفرنسيون بكل الوسائل، ولكون والدة أبيه فرنسية فقد حصل أبوه على الجنسية الفرنسية فكان يتم استدعاؤه من قبل الفرنسيين باعتباره مواطناً فرنسياً يعمل ضد مصالح بلده، فما كان منه إلا أن تنازل عن جنسيته الفرنسية في سابقة تكاد تكون الأولى من نوعها في التاريخ الفرنسي.

سجن وظل في السجن سنين عديدة، ولد زميلي وأبوه حبيس السجن، خرج من السجن على شرط واحد اشترطه الاستعمار الفرنسي عليه، أن يغير اسمه وأسماء جميع أفراد أسرته إلى الفرنسية، طمس مقصود للهوية، تغيرت كل الوثائق الرسمية، وعرف زميلي نفسه في المنزل باسم جمال بينما خارجه عرف باسم جان بيير، وهكذا كان الوضع لجميع أفراد أسرته. قامت حكومة وطنية ولكن لم تتغير الأوراق، عين الأب في الحكومة وزيرا للصحة، قليلا ثم اختلف مع الحكومة، فما كان منهم إلا أن اعتقلوه، لا يذكر زميلي عن أبيه شيئا سوي تلك الليلة، أيقظه أبوه في منتصف الليل وحمله متوجها به لأمه، قال لها والدموع تغرق وجهها: "لا تخافي...أنا أترك لك هذا الرجل في المنزل ليحميك ويحمي إخوته..."، وقال لابنه وهو بعد لم يتجاوز عامه الخامس: "أنت رجل، ورجال أسرتنا يحملون المسؤولية مبكرا...تذكر جيدا أن اسمك جمال...وأنك ابن هذا البلد".

لم يشاهد زميلي أباه أبدا بعد ذلك، وهو في الخامسة عشرة أعلن الراديو المحلي بيانا من وزارة الداخلية يقول فيه: "مات اليوم في السجن الدكتور.......". لم يزد البيان حرفا عن هذه الكلمات، قال زميلي: "حتى هذه اللحظة وأنا ابن الخمسين لا نعرف قبره...تغيرت حكومات وتغيرت الدنيا ولكن البطش هو هو...طلبنا أكثر من مرة معرفة مكان قبرة ولم يستجب لنا".

تزوج زميلي مرتين، المرة الأولى زميلة له من الجامعة من أسرة تشادية عريقة، ذهبا معا لاستكمال دراستهما في فرنسا، أنجبا طفلين، بعد انتهاء الدراسة اعترضت زوجته على العودة لتشاد، مفضلة المكوث في فرنسا، رفض هو هذا، لم ينس أبدا كلمات أبيه، اقترح عليها أي مكان في إفريقيا، رفضت وأصرت، عاد وحده، وقال لي: "مازال الألم يتعصر قلبي كلما تذكرت والدي وكلما رأيتهم، ليسوا تشاديين، فرنسيون حتى النخاع، في هذا خذلت أبي". عاد لبلده وتزوج مرة أخرى وله أربعة أبناء من زوجته الحالية "واحدة أسمتها أمي مريم، والأخرى أسمتها أختي عائشة، والثالثه هي مليكتي اسمها فاطمة، والولد الوحيد لا يريد مني شيئا... في عالمه الخاص طوال الوقت".
سألته: "ولم تعمل أنت بالسياسة؟؟" قال: "حاولت فما كان من أمي إلا أن أتت بمصحف وحملتني على القسم أني لن أتعاطى السياسة أبدا حتى تموت هي.. قالت لي: "خسرت رجلي مرة ولن أخسره مرة أخرى طالما أنا على قيد الحياة".

أخذتنا أيام العمل، مؤتمر كبير به أكثر من 130 دولة، تعاقدت منظمتنا مع مركز الأمم المتحدة للمؤتمرات الواقع قرب القصر الملكي في ميدان كبير جدا. في الاستراحات كنا نأخذ تكتكا سريعا ونذهب لمطعم مصري دلنا عليه زميل كويتي من المشاركين في المؤتمر، يملك المطعم طيار متقاعد من طياري مصر للطيران استقر في بانكوك واتخذ المطعم نشاطا له، كان المطعم ملاذنا لطعام مألوف بدلا من المانجو المملح، وتورلي الفواكه.

تعرف تايلاند باسم "سيام"، كان هذا اسم البلد فيما مضى حتى عام 1949م، فتحولت إلى تايلاند، و"تاي" تعني الحر في اللغة التايلاندية، ولكن مازال بعض السكان يشيرون إلى البلاد باسم "سيام".

ترتبط الأصول التاريخية للبلاد، بتاريخ مملكة "سوكوتاي" التي تأسست عام 1238 م، حلت مملكة "أيوتايا" محلها منذ منتصف القرن الـ14 للميلاد، ووسعت من رقعتها لتشمل العديد من المناطق المجاورة. كان للثقافتين الصينية والهندية تأثير بالغ على البلاد. بدأ الأوروبيون يتوافدون منذ القرن الـ16 م، إلا أنه برغم الضغط الذي مارسه هؤلاء فقد بقيت تايلند البلد الوحيد في جنوب شرقي آسيا الذي لم تستول عليه القوى الأوروبية. في القرن الـ19 م وأمام التهديدات المتواصلة التي كان يشكلها الأوروبيون ومع بداية تغلغل الثقافة التي جلبوها معهم، تم الشروع في عملية الإصلاحات، كما قدمت بعض التنازلات لصالح القوات البريطانية، مما حدا بالبعض إلى إدراج تايلند في قائمة مستعمرات التاج البريطاني، رغم أن سيطرة هؤلاء كانت محدودة.
اندلعت ثورة دموية عام 1932 م أدت إلى قيام ملكية دستورية. كانت البلاد تعرف باسم "سيام"، ثم غيرت اسمها إلى تايلند مرة أولى سنة 1939 م، ثم مرة ثانية منذ عام1949 م، بعد أن كانت قد عادت إلى اسمها القديم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. عقدت البلاد تحالفاً هشا مع اليابان أثناء الحرب، إلا أنها سرعان ما أعادت حساباتها وأصبحت حليفا قويا للحلفاء، عرفت تايلند أثناء تاريخها المعاصر عددا من الانقلابات العسكرية، ثم أخذت منذ الثمانينيات تتقدم بخطاً ثابتة نحو ترسيخ المؤسسات الديمقراطية.
قبل سفرنا إلى تايلاند أرسلت لنا تحذيرات مكتوبة من منظمي المؤتمر من تجارة الجنس ومن التجول ليلا بلا صحبة آمنة، وبالفعل تغلق المدينة أبوابها مبكرا ويغمر المدينة صمت وظلام مهيب.

الحياة التجارية في تايلاند مزدهرة جدا ، في كل مكان تجد أسواقا تجارية بعضها حديث للغايه به كل الماركات العالمية والأسعار خرافية، والبعض الآخر شعبي ولكن أيضا به جميع الماركات العالمية المقلدة تقليدا دقيقا لا تدركه إلا عين خبير وتباع بأسعار في متناول الجميع، تجد في الأسواق الشعبية كل شيء من الإبرة حتى الصاروخ، المشغولات الشعبية واللوحات الفنية، عنصر أساسي في فنونهم الفيل، ذكرني بكتاب "حيوانات أيامنا" للمخزنجي الذي تحول فيه رجل إلى فيل في نهاية رحلة بالغابات. ويعد الفيل رمزا وطنيا لتايلاند.

لم أتمكن من زيارة أي مزار سياحي إلا "بوذا" النائم في معبد "وات فو" وهو من الذهب الخالص، يؤمن البوذيون بحياة "بوذا" في شكل تماثيله، فيضعون له وجبات الطعام ثلاث مرات كالبشر العاديين في أوعية خاصة مذهبة، حول الفندق وجدت كما هائلا من التماثيل يقدم لها الطعام بهذا الشكل.

انتهت أيام المؤتمر بسرعة وحان وقت العودة للديار، ودعت زميلي التشادي ودعوته لزيارتنا في القاهرة هو وأسرته.

منذ تركت تايلاند لا تفارقني ذكرى صبي في الخامسة يستيقظ فزعا ليودع أباه وينظر إليه لا يدري متى يراه مرة أخرى...ولا ما يخبأ لهم بالليل، حفظ الله والدي وزوجي وولدي وجنبهم أهوال السلطان.

ليست هناك تعليقات: