الست الناجحة...

عدت من مؤتمر ترأسته السفيرة مشيرة خطاب، اختلفنا او اتفقنا مع السياسات التي تتبناها كجزء من منظومة الحزب الوطني، رأيتها سيدة قوية وناجحة وتخيلتها في دولة أوربية...رباه كانت لتنجز الكثير الكثير.

في المنزل وكعادتنا أثناء الغذاء الذي يجمعني وزوجي والعيال في المطبخ، إبني يزن، وابنتي تضحك وزوجي يتحدث باقتضاب عن العمل وبين الجملة والأخرى يوجه الأولاد، وأنا آكل وأتحدث وأتحرك بسرعة في المطبخ وبينما أتكلم استوقفتني ابنتي وهي تقول "بتقولي ست ناجحة؟؟يعني إيه يا مامي ست ناجحة" رديت "أولا ماسميش مامي إسمي أمي...يامة...يامايتي...بس بلاش مامي ديه" ضحكت ابنتي وهي تقول "بطلي بأه بطلي...بجد بجد...يعني ايه ست ناجحة" صمت للحظات وأنا أتذكر سؤالي لأمي منذ سنوات كثيرة مضت في مطبخ مماثل "يعني إيه ست عاملة رجيم" السؤال الذي أمضيت حياتى في محاولات فاشلة لتقليد إجابته، أشفقت على ابنتي من رد لا تفهمة وهي ذات الأربع سنوات، ربت على رأسها وأنا أكمل دوراني النحلي "سيبيني أفكر...هقولك بالليل" شيعتني بتعليق "أوكي...كل حاجة بالليل بالليل...".......

بعد أن أودعتهم الفراش أخذت أفكر في الإجابة المُثلى من واقع تجاربي وتجارب صديقاتي، فعلا يعني إيه ست ناجحة؟؟؟ زمان كانت الإجابة واضحة ، يعني ست ربت أولادها كويس، زوجها سعيد معها، لا ترد عليه أمام الآخرين فقط تبتسم، تقتصر طلباتها على أمور بسيطة مثل التموين، الكسوة...إلخ يعني سيده شبه الست أمينة...

بعد مرور زمن قليل اصبحت الست الناجحة هي الست المكافحة، التي تعمل جنبا إلى جنب مع زوجها، تعود إلى المنزل في الثانية، تطبخ سريعا تنتظر الأولاد الذين سيحضرهم زوجها ليس بعد الثالثة، يتناولون االغذاء معا، هي ستذاكر للأولاد وهو سينام قليلا، ليستيقظ على المغرب يتناول الشاي ويجلس معها يشاهدان في التلفزيون برامج الأبيض وأسود وخلافه بهدوء بعد أن يودعا الأطفال فراشهم والكل ملتحف بالبيجامات الكستور المخططة...

تطورت مفاهيم الست الناجحة، فقد سافرت إلى الخليج مع زوجها، ادخرا المال معا، وعادا معا بنيا عمارة اربعة أدوار في مدينة نصر، بجوار مستشفى النصر، أجرا جميع الشقق لتدر عليهم دخلا معقولا، فتحا مكتبة صغيرة تحت العمارة، مع مرور الوقت بدأ الفصال مع المستأجرين للخروج فهم يريدون الشقق للأولاد، كبروا واتجوزوا وهناك أزمة سكن طاحنة، تخلع الست الناجحة الذهب تحويشة عمر السعودية من أجل بناء دور ثاني لتسكين الأولاد بعد أن استندل السكان ورفضوا الخروج من الشقق رغم أنهم يملكون شققا أخرى تمليكا في مدينة نصر بشارع عباس العقاد...

من نماذج الست الناجة أيضا تلك التي "نشنت" على شاب مش حلو، بس شاطر جدا في الجامعة، سبع سنين في طب مكنتها من التمكن منه، فهي تعرف كيف لا تدعه يفلت من إيدها،لا تزن في طلب العواطف، لا تزعجه كثيرا أيام الإمتحانات، توفر له بعض الكتب اللازمة للمذاكرة، يشعر إن قلبها عليه، يكتفي هو أيضا بالتواصل معها أثناء أوقات الراحة من المذاكرة، يسحب الهاتف إلي غرفته في مكالمة لا تستغرق ربع ساعة، صحيح هو في حالة حب، بس حالة حب مدروسة ومحسوبة، يتخرجا معا، يتم تعيينهما معا، يسافرا معا لنيل الدكتوراه من دولة اروبية يعودان منها على إعارة للكويت، يرزقا بثلاثة أطفال ومستشفى خاص في المعادي الجديدة، هي أكيد ست ناجحة لأنها وراء هذا الرجل الناجح الذي أصر بعد ذلك على إكتفائها بالكلية والبيت دون الحاجة للعمل في المستشفى، صحيح قسم الاشعة باسمها والروشتات عليها إسمها ولكن ظهورها لا يتعدى ظهور اسمها على ورق المستشفى...وكل سنة في عيد ميلادها أو عيد جوازها بييجي خاتم ألماظ هدية للست ناجحة...

وعبر العصور كانت أكيد مش سات ناجحة اللي "بتشردح" لجوزها في البيت، وفي الشارع وفي كل مكان، أو الست اللي بتطلب الطلاق وتصر عليه حتى لو زوجها خاين، أو خمورجي أو أو، مازال في أروقة المنازل منذ الأزل وحتى يومنا هذا يضرب المثل بالست الصعيدية اللتي ضربها زوجها علقة خلاها "تشلب دم" وطردها، فنامت على باب البيت علشان تسرح لابنتها شعرها وهي خارجة الصبح رايحة المدرسة، على فكرة أكيد بنتها برضه هتنضرب وهتسكت لو مش من الأب سيكون من الزوج أو الأخ السفاح الذي نشأ في منزل هذا الأب الدموي. ومن النماذج غير الناجحة تلك التي نفدت بجلدها من الزوج البخيل الخائن الذي ضربها مرار وتكرارا وتركت ورائها الأولاد، لأنها تخلت عن أولادها، لأنها رمتهم، لأنها ضحت بيهم علشان هي تعيش، فهي ليست بالناجحة، هي ملعونة، ينظر إليها شذرا رغم بكائها الصامت يوميا قبل النوم ورغم حياتها على المهدئات لأنها لا تكف عن التفكير في أولادها...أصل الست ديه ولا مؤاخذه "زي الوز...حنية بس من غير بز".

اليوم عندما أفكر في الست الناجحة من هي يا ترى، انتقلت المرأة من العمل في المستشفى كممرضة أو كطبيبة أو من كونها مدرسة، أو موظفة في شركة العامرية للبدل الجاهزة، أو من كونها عاملة في المصنع إلى العمل في شركة متعددة الجنسيات، في البورصة، في شركات الأموال، أوفي منظمة دولية، بل وأصبحت وزيرة، وقاضية، ومحامية يجلجل صوتها في المحاكم، طبعا لما صوتها بيجلجل القاضي يصرخ فيها "بتزعقي ليه يا استاذة" لكن لما بيجلجل صوت الأستاذ يصبح "الله على المرافعة الحلوة"، أصبت بدلا من الأربعة أطفال أما لطفلين والثالث جيه غلطة، أصبحت لا تطمع في الذهب ولا تفرح به فهي تريد الشقة باسمها، وتريد قطعة أرض في التجمع الخامس، وتريد زوجها أن يأخذ لها "فلة" في "الكومباوند" الجديد في السادس من أكتوبر، "كومباوند" أولاد الأكابر، أصبح صوت المرأة أكثر ارتفاعا، صراخها متكررا، بكائها العلني أكثر شيوعا، المرأة الهستيرية أصبحت علامة معروفة في الشارع المصري، تخبط العربية وتنزل تصوت في الشارع، تتخانق مع جوزها وتروح تصوت لمديره في الشغل، أو تطرده خارج الشقة، في خضم هذا كله ظهرت المرأة التي تعامل مديرها كزوجها، فتبكي بصمت على المقعد أمامه ليحقق لها ما تريد، أو تميل عليه فيشم رائحة شعرها "الفرش" فيدوخ ويوقع على طلب السلفة لشراء العربية الجديدة، أو التي تدخل وفي يدها هدية بسيطة بعد السفرية التي نجحت بفضل موافقته عليها، والهدية عبارة عن تعبير بسيط عن الود الأصيل الغير مصحوب قطعا بأي دلال ولا بأي تطميع... من هذه المرأة الجديدة ؟؟؟ من هي المرأة الناجحة...يعني إيه ست ناجحة؟؟

نحن في مجتمع يتغير، على قطبيه تحمل الكثير من أجل هذا التغيير الزاحف وبقوة، وقطبيه أقصد المرأة والرجل على حد سواء يقع عليهما الكثير للمرور بالمركب إلى بر الأمان بأقل الخسائر، سيكون هناك خسائر متمثلة مثلا في قلة عدد الساعات التي تمضيها المرأة في المنزل، ولكن في المقابل سيكون الأولاد أكثر قدرة على التكيف مع الغير وقبول الآخر الذي يحتكون به في ساعات غياب تلك الأم، لن يكون هناك طعاما طازجا للرجل على المائدة كل يوم لكن في المقابل ستقل ميزانية الطعام لصالح أمور قد تكون أكثر أهمية، التوازن بين الداخل والخارج يجب أن يكون مراقبا وبدقة، فلو تغيبت المرأة عن زوجها ولم تكن حاضرة في حياته ستكون العواقب وخيمة، غيبي نعم ولكن إحضري عبر الرسائل المستمرة، عبر الإيميل، عبر الورد...عبر ذكائك، لا تغيبي بلا حضور كوني الحاضر الغائب، لاتصدقي قصة "الكرير"، نحن في مهمة، كان هناك "كرير" عندما كنت وحدك، تحول مع وجود مؤسسة الأسرة إلى مهمة، مهمة تحبيها نعم لكنك تحبين غيرها أكثر... الزوج والأولاد، المؤسسة... الأسرة، النواة لهذا المجتمع وهذا البلد، غير قادرة أنت على المذاكرة بنفسك لأولادك، بها، وفري البديل ببساطة ودون ربكة للرجل الذي يكره الارتباك والقلق. صمام الأمان للأسرة وتباعا للنجاح ليس الرجل ، وليس المرأة ولكن هما معا. في تقبلهما لنمط حياتي جديد لم يعرفه المجتمع من قبل، نمط لم يفرضه الاستهلاك بقدر ما فرضته طبيعه العصر وبيئته شبه العالمية حتى في أكثر المجتمعات إغراقا في المحلية. هذا النمط الجديد غير إلى غير رجعة مفهوم المرأة الناجحة التاريخي...ولم يصل بنا بعد لمفهوم جديد...

ابنتي من المرأة الناجحة؟؟؟ سؤال لا تجيب عليه إلى نتائح حياة المرأة، ولكن في الطريق أقول لك أنها تلك السيدة المبتسمة التي تغضب قليلا وتصبر أكثر، التي تغير من أمامها بحكمة، التي عندما يغضب زوجها لا تقول له" أنا مش هنفقك إنت غلطان من ساسك لراسك"...وإنما تصبر وتقول "ما حبش ولادك يشوفوك كده". هذه المرأة الناجحة ليست أمك....

لكنها مزيج من كل النساء التي تعرفين....

الست الناجحة لا تكون ناجحة وحدها وإنما بمن حولها من أب وأم وزوج وأولاد وأخوة وأخوات...

المرأة الناجحة هي تلك التي قالت: "لدي سبعة أولاد كلهم راحوا شهداء...لو عندي ولد تاني كنت قدمته".

فهمتيني؟؟؟

هناك تعليقان (2):

L.G. يقول...

من العجيب أني أقرأ تدويناتك مع انها طويلة نسبيا بالنسبة لقراءاتي وهو يعني مدى قوتها اللغوية والفكرية لأستمر حتى نهايتها

ولكني لم أفهم في النهاية من المرأة الناجحة ؟؟ وهل أكون فاشلة إذا لم أحقق أسرة وبيت وكرير ؟
جعلتني أتساءل عن مدى نجاحي في الحياة وأخاف أن أكون منيت بصفر المونديال
تحياتي

فاطمة ...أم سليم يقول...

لم أقصد ذلك إطلاقا وإنما قصدت الإخلاص ووضوح الهدف، قديكون الأولاد والأسرة في الواقع عائقا عن الإخلاص وعن الوصول للهدف. لننظر في قلوبنا أعتقد المخلص هو الناجح لأنه ينام مطمئنا...مش كده؟؟