تحمل حقيبة يد كبيرة، ترتدي بالطو طويل يدل على يسر الحال، ويضع زوجها يده على كتفها، يعرض عليها حمل الحقيبة ترفض وتضغط بيدها على يد الحقيبة متمنعة عن إعطائه إياها. أختلس النظر إليها، وهي تسير مع زوجها، وتعيدني بالذاكرة لسنوات مضت، كنت فيها جزء من ملحمة مشابهة مع سيدة أخري ملساء الصدر.
إنها آفة النساء، خاصة، إختصنا الله معشر النساء بهذا الجزء من الجسد، وكذلك أُختصينا بهذا المرض، ورغم وجود بعض الإصابات بين الرجال به، إلا أن العدد محدود للغاية، تدل الإحصائيات الرسمية أنه في بعض بلدان الإقليم تصل حالات الإصابة بسرطان الثدي إلى 41.9 حالة كل 100.000 شخص[1]. يقول أحد مواقع الإنترنت، "صدور النساء لإرضاع الأطفال وليست للجنس"، وتعجبني هذه المقولة، ليس تقليلا من شأن الجنس كأحد المحركات الرئيسية لأمور حياتنا، ولكن لأن في هذه المقولة رفعة شأن وتنزيه عن كل من جمال الشكل و عن الألم لمن يجدن أنفسهن وجها لوجه مع مظهر جديد في المرآة لصدر أملس.
يالها من محنة ويالها من ذكري وياله من هاجس، هاجس أتصور وجوده عند كل إمرأة عرفت إحدى أفراد أسرتها هذا الزائر الذي يحل لا مرحبا به ولا مرغوبا فيه.
يتساوي في الألم النفسي لهذه المحنة ميسورات الحال ومن يضيق بهن المال، إلا في عناء العلاج...فلهذا قصة أخرى، ذكرني مشهد السيدة بتلك المرأة الأخرى، عندما حل بها هذا الضيف، هذا الكابوس، رأيتها تبكي مرة واحدة بعد العملية وهي تضع يدها على مكان الجرح بينما يحتضنها زوجها وهو يقول "...ماحصلش حاجة... ما حصلش حاجة...إحنا في دي مع بعض زي ما كنا في غيرها مع بعض..." ومنذ ذلك اليوم وحتي حلول النهاية لم تبك، على الأقل أمامي، إلا مرة واحدة أخرى عندما كانت تصلي ولم تستطع تذكر القرآن...في تلك المرة أيضا هدء زوجها من روعها وقال لها "معلش أنا هقرأ وإنتي إقري ورايا" "بس إنت صليت خلاص" "معلش هصلي تاني...ربنا مش هيقبل مني المغرب مرة تانية ياعني" وضحكا معا في خضم الأزمة...في خضم الألم...في خضم المفاجآت التي لم تتوقف.
ركبا معي نفس الطائرة، وكأنما شعرت المرأة بنظراتي لها فرمقتني بنظرة هادئة وإيتسامة مطمئنة كأنما تقول بها، نعم، أنا منهن...أنت عرفت وأنا أؤكد لك. يختلف شعور من يلم بها هذا الأمر كما ونوعا بنوع معاملة من حولهن، كيف يستقبلن الأمر، كيف يتصرفن مع المصابة، خاصة الزوج والأبناء...أسئلة من الصغار قد تجرح كقول الصغير لأمه "هو صدرك راح فين" أو "هو الحتة ديه مبططة كده ليه"، كيف يتعامل الزوج هل سيقول لها "خلاص العدة فوتت وما عدش ليها لزمة" أم سيقول إستعدادا للعالج الكيميائي وما يفعله بالمصابة "تصدقي بحب شعرك وهو قصير ما تقصيه كده وتخليه قصير هيصغرك جدا". التقبل...والرضا...ويد العون التي تمتد ببساطة ودون مبالغة في الإشفاق ممن حولهن ينعكس كل هذا مباشرة عليهن.
الهاجس الجنسي طبعا يرتبط أشد الإرتباط بمثل هذا الموقف، وللأسف تَشعب الحياة بمسؤولياتها وبما فيها يتوقف مع حلول المرض، ويتحول هدف الحياة إلى منحى واحد وهو البقاء، قليل هم الذين يتعايشون ويهتمون بما يسمى “نوع الحياة” quality of life.
لقد تنبه آخرون لهذه المسألة فأصبحت المحلات العالمية تضع خط إنتاج للملابس الداخلية يسمى "ما بعد الجراحة" post surgeryرقيقا جميلا مريحا، ويعوض المرأة نفسيا وشكليا، وهذا أمر هام للغاية للتأكيد على أن الحياة لم تنته، هناك حياة كاملة أمامنا، لن نمضيها في ترقب الموت أو محاولة الإفلات منه، وإنما سنمضيها في محاولة للسعادة، محاولة لعدم تضييع أية فرصة لأداء ما علينا تجاه الآخرين.
والفرص الضائعة هي لب الحزن عند الموت، فكرة أننا لن نراهم مرة أخرى، أننا لا نعرف ماذا يفعلون، أننا لا نعرف عن هذا العالم إلا كما قال أحدهم "مجرد أمنيات" لا يقين فيها، لأن أحدا لم يذهب وعاد ليخبرنا بما نتوقع[2]، وهنا يأتي هذا الحزن كالطوفان، والهلع الذي لا راد له إلا إيمان راسخ وعقيدة لا تتزعزع أننا لن نفوت فرصة لنسعد فيها، أن كل خلافاتنا سنتجاوزها لأننا الآن نعرف يقينا أننا لن نعيش أبدا، وأن أبدنا معا مؤقت، توقيتا غير ذلك الذي لدى البشر العاديون، إنه توقيت له علامة...الصدر الأملس الذي نعيش به كل يوم، ونراه كل يوم في مرآة الحياة وفي المرآة التي تعكس صورة كل إمرأة أخرى لها صدر ممتلئ.
وللدولة والجهاز الصحي بها باع أساسي في مساعدة ذوات الصدور الملساء في تجاوز المحنة، ولكن دولنا للأسف لا تجد فيها مجموعات المساعدة، بل ولا يخبر الطبيب المريضة بما عليها أن تتوقع، إنه الإظلام العلمي الذي يزيد في الرعب، ويرسم دربا من المجهول لا معين عليه إلى الله سبحانه وتعالى، أتذكر المرأة الأخرى عندما قَر قرار الزائر في جسدها وتشعب، بكت إبنتها وهي تراها تفقد توازنها يوما، فما كان من المرأة إلا أن قالت لها "لا تخافي...لا تحزني...أنا عارفة اللي هيحصل" "طب إيه اللي هيحصل؟؟؟" "مش هقولك...دي مفاجأة" لحظة صمت...ثم ضحكتا، هكذا إذا مازال الظلام العلمي، زال معه الخوف، وجاء اليقين.
قطعا... كما يكتب سائقي النقل على عرباتهم، يقيني بالله يقيني، ليس من الضيف، ليس من المقدر و المكتوب، ولكن من الهلع، هل إختصرنا الدين لمجرد طقوس وممارسات قد تكون أصلا غير مطلوبة، وشكل الملبس، أم أن دوره لابد أن يتجاوز ذلك لشؤون المؤمنين به جمعاء، من تلك المبادرات المجتمعية كنسية الأصل في بريطانيا (كما قيل لي) ، التي وجدتها مؤثرة للغاية تلك الوردة الزهرية التي يشتريها الناس ويشبكونها بملابسهم، فيرتدي البعض عشرة على الجاكت، أو أكثر أو أقل في علامة على تضامنهم وعلى رغبته في تغيير واقع ومستقبل المرض. وإذا كانت الدول تقصر فالمؤسسات الدينية عليها أن تأخذ زمام المبادرة وتحيي ما طمره الزمن من أوقاف المريض[3] وغيرها من الوسائل التي تؤكد على التعاضد والتكافل الإجتماعي ليس المادي فقط وإنما كذلك الشعوري.
الشعور بالعجز أمام المرض، أحد المعضلات المرتبطة بهذا الضيف الثقيل، هل نحن عجزه، إطلاقا، المعرفة، التضامن، الأمل، سيجعلنا نتجاوز هذا الشعور، وهو ما رأيته من المحيطين بالسيدة الأخرى، وما أراه الآن من زوج السيدة التي تقف أمامي عند سير الحقائب.
وأخيرا، لابد لنا من تعزيز مفهوم الوقاية خير من العلاج في مقابلة مفهوم الإستسلام لما هو مكتوب وسوف يكون، "قدر الله يرد قدر الله"، الكشف المبكر، واستخدام أجهزته لكل من جاوز سنها الأربعين ضرورة حتمية لدفع الضرر.
يالها من محنة ويالها من ذكري وياله من هاجس، هاجس أتصور وجوده عند كل إمرأة عرفت إحدى أفراد أسرتها هذا الزائر الذي يحل لا مرحبا به ولا مرغوبا فيه.
يتساوي في الألم النفسي لهذه المحنة ميسورات الحال ومن يضيق بهن المال، إلا في عناء العلاج...فلهذا قصة أخرى، ذكرني مشهد السيدة بتلك المرأة الأخرى، عندما حل بها هذا الضيف، هذا الكابوس، رأيتها تبكي مرة واحدة بعد العملية وهي تضع يدها على مكان الجرح بينما يحتضنها زوجها وهو يقول "...ماحصلش حاجة... ما حصلش حاجة...إحنا في دي مع بعض زي ما كنا في غيرها مع بعض..." ومنذ ذلك اليوم وحتي حلول النهاية لم تبك، على الأقل أمامي، إلا مرة واحدة أخرى عندما كانت تصلي ولم تستطع تذكر القرآن...في تلك المرة أيضا هدء زوجها من روعها وقال لها "معلش أنا هقرأ وإنتي إقري ورايا" "بس إنت صليت خلاص" "معلش هصلي تاني...ربنا مش هيقبل مني المغرب مرة تانية ياعني" وضحكا معا في خضم الأزمة...في خضم الألم...في خضم المفاجآت التي لم تتوقف.
ركبا معي نفس الطائرة، وكأنما شعرت المرأة بنظراتي لها فرمقتني بنظرة هادئة وإيتسامة مطمئنة كأنما تقول بها، نعم، أنا منهن...أنت عرفت وأنا أؤكد لك. يختلف شعور من يلم بها هذا الأمر كما ونوعا بنوع معاملة من حولهن، كيف يستقبلن الأمر، كيف يتصرفن مع المصابة، خاصة الزوج والأبناء...أسئلة من الصغار قد تجرح كقول الصغير لأمه "هو صدرك راح فين" أو "هو الحتة ديه مبططة كده ليه"، كيف يتعامل الزوج هل سيقول لها "خلاص العدة فوتت وما عدش ليها لزمة" أم سيقول إستعدادا للعالج الكيميائي وما يفعله بالمصابة "تصدقي بحب شعرك وهو قصير ما تقصيه كده وتخليه قصير هيصغرك جدا". التقبل...والرضا...ويد العون التي تمتد ببساطة ودون مبالغة في الإشفاق ممن حولهن ينعكس كل هذا مباشرة عليهن.
الهاجس الجنسي طبعا يرتبط أشد الإرتباط بمثل هذا الموقف، وللأسف تَشعب الحياة بمسؤولياتها وبما فيها يتوقف مع حلول المرض، ويتحول هدف الحياة إلى منحى واحد وهو البقاء، قليل هم الذين يتعايشون ويهتمون بما يسمى “نوع الحياة” quality of life.
لقد تنبه آخرون لهذه المسألة فأصبحت المحلات العالمية تضع خط إنتاج للملابس الداخلية يسمى "ما بعد الجراحة" post surgeryرقيقا جميلا مريحا، ويعوض المرأة نفسيا وشكليا، وهذا أمر هام للغاية للتأكيد على أن الحياة لم تنته، هناك حياة كاملة أمامنا، لن نمضيها في ترقب الموت أو محاولة الإفلات منه، وإنما سنمضيها في محاولة للسعادة، محاولة لعدم تضييع أية فرصة لأداء ما علينا تجاه الآخرين.
والفرص الضائعة هي لب الحزن عند الموت، فكرة أننا لن نراهم مرة أخرى، أننا لا نعرف ماذا يفعلون، أننا لا نعرف عن هذا العالم إلا كما قال أحدهم "مجرد أمنيات" لا يقين فيها، لأن أحدا لم يذهب وعاد ليخبرنا بما نتوقع[2]، وهنا يأتي هذا الحزن كالطوفان، والهلع الذي لا راد له إلا إيمان راسخ وعقيدة لا تتزعزع أننا لن نفوت فرصة لنسعد فيها، أن كل خلافاتنا سنتجاوزها لأننا الآن نعرف يقينا أننا لن نعيش أبدا، وأن أبدنا معا مؤقت، توقيتا غير ذلك الذي لدى البشر العاديون، إنه توقيت له علامة...الصدر الأملس الذي نعيش به كل يوم، ونراه كل يوم في مرآة الحياة وفي المرآة التي تعكس صورة كل إمرأة أخرى لها صدر ممتلئ.
وللدولة والجهاز الصحي بها باع أساسي في مساعدة ذوات الصدور الملساء في تجاوز المحنة، ولكن دولنا للأسف لا تجد فيها مجموعات المساعدة، بل ولا يخبر الطبيب المريضة بما عليها أن تتوقع، إنه الإظلام العلمي الذي يزيد في الرعب، ويرسم دربا من المجهول لا معين عليه إلى الله سبحانه وتعالى، أتذكر المرأة الأخرى عندما قَر قرار الزائر في جسدها وتشعب، بكت إبنتها وهي تراها تفقد توازنها يوما، فما كان من المرأة إلا أن قالت لها "لا تخافي...لا تحزني...أنا عارفة اللي هيحصل" "طب إيه اللي هيحصل؟؟؟" "مش هقولك...دي مفاجأة" لحظة صمت...ثم ضحكتا، هكذا إذا مازال الظلام العلمي، زال معه الخوف، وجاء اليقين.
قطعا... كما يكتب سائقي النقل على عرباتهم، يقيني بالله يقيني، ليس من الضيف، ليس من المقدر و المكتوب، ولكن من الهلع، هل إختصرنا الدين لمجرد طقوس وممارسات قد تكون أصلا غير مطلوبة، وشكل الملبس، أم أن دوره لابد أن يتجاوز ذلك لشؤون المؤمنين به جمعاء، من تلك المبادرات المجتمعية كنسية الأصل في بريطانيا (كما قيل لي) ، التي وجدتها مؤثرة للغاية تلك الوردة الزهرية التي يشتريها الناس ويشبكونها بملابسهم، فيرتدي البعض عشرة على الجاكت، أو أكثر أو أقل في علامة على تضامنهم وعلى رغبته في تغيير واقع ومستقبل المرض. وإذا كانت الدول تقصر فالمؤسسات الدينية عليها أن تأخذ زمام المبادرة وتحيي ما طمره الزمن من أوقاف المريض[3] وغيرها من الوسائل التي تؤكد على التعاضد والتكافل الإجتماعي ليس المادي فقط وإنما كذلك الشعوري.
الشعور بالعجز أمام المرض، أحد المعضلات المرتبطة بهذا الضيف الثقيل، هل نحن عجزه، إطلاقا، المعرفة، التضامن، الأمل، سيجعلنا نتجاوز هذا الشعور، وهو ما رأيته من المحيطين بالسيدة الأخرى، وما أراه الآن من زوج السيدة التي تقف أمامي عند سير الحقائب.
وأخيرا، لابد لنا من تعزيز مفهوم الوقاية خير من العلاج في مقابلة مفهوم الإستسلام لما هو مكتوب وسوف يكون، "قدر الله يرد قدر الله"، الكشف المبكر، واستخدام أجهزته لكل من جاوز سنها الأربعين ضرورة حتمية لدفع الضرر.
عند إنشغالهم مع ضابط الجمرك، وضعت الشوكولاته التي أعطوني إياها في الطائرة على حقيبتها مع نوتة صغيرة "لك...من إمرأة أخرى تواجه ذات الداء" هل كانت الرسالة لها أم للمرأة الأخري؟؟؟ هل أنظر للماضي متمنية أن يعود... لتعويض بعض الفرص الضائعة، خاصة وأنا الآن أُم وأدرك المعنى الخاص لأمومة فتاة؟؟؟ وإذ أذكر إبنتي، يلهج لساني بالدعاء "يارب ما تورنيش فيها حاجة وحشة" اللهم آمين.
[1] لمعلومات عن مرض سرطان الثدي وإحصاءاته برجاء الإطلاع على موقع منظمة الصحة العالمية، المكتب الإقليمي لشرق المتوسط، http://www.emro.who.int/
[2] مع كامل الإحترام للعقائد الدينية، التي هي راسخة أيضا في ضمير الكاتب
[3] أنظر الدكتور محمد سليم العوا " محاضرات حول الوقف في الإسلام" كان هناك وقف للغناء للمرضى وللتسرية عنهمhttp://www.el-awa.com/
[1] لمعلومات عن مرض سرطان الثدي وإحصاءاته برجاء الإطلاع على موقع منظمة الصحة العالمية، المكتب الإقليمي لشرق المتوسط، http://www.emro.who.int/
[2] مع كامل الإحترام للعقائد الدينية، التي هي راسخة أيضا في ضمير الكاتب
[3] أنظر الدكتور محمد سليم العوا " محاضرات حول الوقف في الإسلام" كان هناك وقف للغناء للمرضى وللتسرية عنهمhttp://www.el-awa.com/
هناك 5 تعليقات:
أحسنت يا أم سليم و أبكيتنا والله يرحم السيدة الأخرى العزيزة علينا جميعا و لا نذكرها إلا بكل خير
شكرا يا هبة، لم أكتبها لؤولم أحد وإنما وفاء لهن جميعا...سواء نعرفهن أم لا...بارك الله فيك
الله يسامحك يافاطمه ويعوضكبكل الخير فى أولادك وزوجك .ويهون على كل المبتليات .ويرحم أمهاتنا جميعاوكل أحبائنا.
اشكرك جدا اختى ام سليم لانك طرحتى موضوع غاية فى الاهمية يمكن لسه قايمين يهتمو بيه اعلاميا فى مصر دلوقتى
اصابة المراة بهذا النوع من المرض يستدعى ترابط وتعاضد الاسرة خاصة الزوج والاصحاب مع هذه الانثى التى تكون فى امس الحاجة لكل مساندة نفسية ممكنة
شكرا يا مامة مازن على هذه التحية ولك كل الحق فيما تقولين.
إرسال تعليق