السائق
(1)
كان الألم رهيباً ، وفوق كل وصف، كانت في بحر زرقته عميقة تحتضن كل شيء وتدور ويرتفع صوتها بالغناء، مع هذا وجد ألم عميق عميق بداخلها، لأنها الوحيدة التي كانت تعلم، يقينا، أن ما بين ذراعيها ليس لها، كان الآخرون يرون هذا الذي في أحضانها حقيقة وكانت علي يقين أنه سراب لن يتحقق، كانت النهاية وإن بعدت آتية. مع هذا رفضت الذهاب، رفضت وبإصرار ترك ذلك البحر اللجي العميق.
لماذا..؟؟ سؤال أوله مقاساة عقلية شديدة، ونهايته كفر. وبين البداية والنهاية طريق طويل طويل من الأفضل ألا يكمل، و رحمها ربها، فلم تخط في طريق لماذا طويلا، فأدركت ما أدرك العرب من أن في اليأس إحدى الراحتين.
كانت في هذا البلد العجيب ، خرجت لتوها من المستشفى وكان الطريق غريباً لم تطرقه من قبل، لم تكن معها سيارة، شاهدت ذلك السائق..سأل إلى أين؟..قالت له..ركبت وقاد.
الحقيقة دهشت، فقد كانت قيادته غريبة، كانت مختلفة ولكن في هذا الوقت كان السائق مسليا، فيه كل ما افتقدت، كل ما أوحشها منذ دخلت ذلك المستشفى العجيب.
لم تعرف لا القلق ولا الخوف، كل ما عرفت كان جديداً …نسيت كل ما حولها، غرقت في حكايات السائق …حتى الطريق نفسه لم تعد تنتبه له. ظل السائق يتكلم ويتكلم وهي تنصت ويشير إلى معالم الطريق وتنظر إليها تراها بنفس انبهاره هو بها.
فجأة ظهر أبوها واقفاً على ناصية الطريق ، ما الذي أتى به إلى هنا ؟ لماذا هو قلق هكذا؟ تعلقت عيناها به فترة فإذا بالقلق البادي في عينيه يتحول إلي غضب هي لا تفهم لماذا يتغير؟ ألأنها اختارت طريقاً مختلفاً؟ هل كل ما ليس مشابهاً لما فعل خطأ؟ هل كل مخالفة له فشل؟ أدارت وجهها، لن تنظر إليه مرة أخرى، إنه يبتعد عنها، لم يعد يريدها كما هي، عوضت في وحدتها بهذا السائق العجيب وحكاياته وأفكاره المثيرة.
لماذا يسرع؟ هي خائفة… لا تخافي… انظري… نظرت… نسيت خوفها، غرقت في تفاصيل كلامه . ماذا يحدث؟؟.. لماذا حل الظلام فجأة.. فزعت.. قالت للسائق افعل شيئا، لم ينصت وقال لنصبر سينقشع الظلام ...
إنه أبوها مرة أخرى، ماذا يريد منها الآن؟ أيبعدها ثم يظل يأتي؟ ثم أين عيناه التي ألفت فيهما حباً وحناناً؟ لماذا يريدها أن تترك السائق وعالمها الجديد؟ لماذا ترى تلك النظرة المتحجرة المصحوبة بشفقة تكرهها ؟ لا.. ليست هاتان عينيه اللتين تحب.. ليستا هما.. لن تنظر.. لن تنظر أبداً بعد ذلك. لا تريد لا أن تقلق ولا أن تفكر. السائق وحكاياته تستهويها وتستغرقها، ياله من عالم مثير مختلف، هو نفسه مختلف ...تشعر أنه فقير مسكين ... والطريق طويل يبدو أنه لم يطرقه من قبل، لذا بدا كل شيء له ولها غريباً ومخيفاً وباهراً، وأحياناً كثيرة كان مؤلما… وبشدة.
لم يصلا بعد، وهو لا يكف عن الكلام، هل تعطلهما أعطال الطريق أم أنه الزحام؟ وهل هو غبي؟ كلما اقتربا من جسر رفض أن يعبره وحول مسار السيارة ، لقد أتعبها هذا السائق... أتعبها حقيقة.
سوف تنام، تريد أن ترتاح قليلاً ، ما باله، ألا يسمع؟ هل هو أصم؟ لا يهم سوف تنام رغماً عنه. أغمضت عينيها... إنه يتكلم ويتكلم و يتكلم ...فتحت عينيها.. لم تصدق ما رأت!! هي الآن تقود وهو إلي جوارها.. كيف تحركت، كيف أمسكت بعجلة القيادة ؟؟ قال السائق إنه تعب وإن هذا دورها ..دورها !!!! لم يفعل شيئاً منذ ركبت معه سوى الكلام.
كانت رؤيتها لأبيها مرة أخرى صادمة، إنه في نفس المكان، كيف هذا؟ خلفه ذات المصباح الأبيض الضوء … كيف يكون في ذات المكان؟ هل عادت إلي بداية الطريق؟ نظرت خلفها... يا إلهي.. إنه ميدان... نعم ميدان... منذ ركبت وهى مع هذا السائق في ميدان واحد لم يخرجا منه يدوران بداخله... لقد أخطأ السائق وأخطأت من بعده، إن أباها يتكلم ... يقول اقفزي ... تقفز!!! كيف تترك القيادة والسائق وكل هذه المشاهد والتجارب الجديدة؟... كيف؟ يا بنيتي ليس هناك جديد، الظلام في السيارة شديد لذا لا ترين، إنه ميدان، ذات الميدان لا جديد فيه.
لن تقفز، سوف تخبر السائق….. إنه لا ينصت.. كررت القول لكنه لا ينصت، فجأة هتف قائلاً لها الآن عليك تغيير الطريق انظري هناك أمامك... هذا هو العنوان الذي عنه تبحثين، ادخلي هذا المنعطف، سعدت جدا.. نعم أخيراً ستصل، ياه.. كم كان الطريق الجديد جميلا، به بيوت صغيرة، تبدو دافئة، وأشجار خضراء، سرها جداً هذا التحول في الطريق، خاصة وقد أرهقتها القيادة.
عند العنوان الذي تريد همت بالتوقف.. رفض السائق بشدة وبعنف، فزعت، قالت له هذا هو العنوان، قال لا.. أكملي.. إنه ليس العنوان الحقيقي، ثم ضغط بشدة علي قدمها ليزيد من سرعة السيارة. يا ربي لقد جن السائق.. ماذا تفعل الآن؟؟ ماذا تفعل؟؟ هل تقفز؟؟ أتتركه وحيدا؟ ربما كان حاله أفضل قبل أن تركب معه، ربما يجد راكباً جديدا. هي متأكدة أن هذا ليس طريقها وهو مصر على العكس.. من يعرف أكثر من المحق هي أم هو؟؟
اقفزي ... اقفزي… يا ربي!! إنه أبوها مرة أخرى!! كيف هذا؟ ألم تدخل المنعطف؟ كيف تراه مجدداً وفي نفس المكان؟ السائق ينكر أنهما خرجا من المنعطف على ذات الميدان، وهو لا يرى أباها ولا يري أحداً .
لا فائدة.. إنه لا يسمع ولا يريد أن يفهم. عليها أن تقفز. رفع صوته فجأة وكأنه شعر بما نوت... شعرت أنه يريد أن يشغلها... هتف أبوها بها قائلاً لا تتكلمي.. فقط اتركي عجلة القيادة ثم اقفزي… لا.. لا يمكن أن تتركه هكذا… ستقول له… ستشرح له… افهم أرجوك… نحن لن نصل أبدا، أنت لا تحسن القيادة، علينا أن نترك السيارة والميدان، يبدو أصم ولا يسمع.
لن نصل، أيقنت أن الرحلة أشرفت على نهايتها...لن تقاوم هذه المرة.. لقد قاومت كثيرا، هذه المرة القدر يأبى المصارعة، جاء اليقين.
ستقفز في صمت.. لقد ارتفع صوت السائق وصار مزعجاً جدا.. ستقفز.. ستقفز لن تتردد.. هاهو صوت أبيها.. ها هو وجه أبيها..يا ربي لقد عادت عيناه الحبيبتان.. عادتا… وقفزت .
غمرها الضوء … جرحت رأسها ويدها اليسرى وقدمها، وأكبر جراحها كان في صدرها ... ساعدها أبوها.. أمسك بيدها … اعتكزت على ذراعه، وسارت معه ...
نظرت خلفها لقد تولى السائق القيادة مجددا، لكنه ما زال يدور في ذات الميدان ...ويتكلم... لا أحد معه لكنه يتكلم...
هناك تعليق واحد:
بسم الله الرحمن الرحيم
مرة واحدة كل هذه التدوينات بالطبع سأقرأها واحدة في اليوم قبل النوم :)
قرأت الأولى ولم أفهم شئ في البداية :)) حقيقة ثم وأنا أقرأ كلمة مصر ( بمعنى السائق مصمم) قرأتها خطأ مصر بكسر الميم بدلا من ضمها
ففهمت ( يارب يكون صح )
أتم الله لنا ضم الميم بدلا من كسرها
تحياتي
إرسال تعليق